يزعم الكثير من الباحثين بأن الإدارة العثمانية كانت رافضة لفكرة تواجد المطبعة على أراضيها. ويستعينون في ادعاءاتهم هذه بفرمانين من السلطان بايزيد الثاني وابنه السلطان سليم الأول، فيذكرون بأن السلطان بايزيد أصدر فرمانًا عام 1485 يحظر إنشاء المطابع في أراضي الدولة، وأن السلطان سليم الأول أصدر فرمانًا يقضي بالإعدام على من يمارس الطباعة في أراضي الدولة، ومنع إنتاج أي كتب تطبع بحرف عربي
أدلة تنفي رفض الدولة العثمانية لتأسيس المطبعة:
هذه الادعاءات من أشهر ما يتم التأكيد عليه في الكثير من المراجع التي تتحدث عن المطبعة وعلاقتها بالسلطة العثمانية، وهي ادعاءات لا يوجد أي دليل ولا أثر ولا وثيقة تاريخية تدل عليها، بل يوجد من الآثار والوثائق ما ينفيها ويُدخلها في إطار الشائعات المتداولة التي لا تصمد أمام الحقائق التاريخية والتي نذكر منها:
1-كان تأسيس أول مطبعة في الدولة بمدينة «إسطنبول» قلب الدولة العثمانية وعاصمتها بواسطة الأخوين اليهوديين “صامويل بن نحمياس” و “ديڤيد بن نحمياس” لخدمة المجتمع اليهودي بالمدينة عام 1493 في نفس القرن الذي ظهرت فيه المطبعة في أوروبا، وذلك أثناء فترة حكم السلطان بايزيد الثاني
2- بعد استلام السلطان «سليم الأول» الحكم من أبيه السلطان بايزيد بعام واحد توالت عملية تأسيس مطابع يهودية جديدة بإسطنبول في الأعوام 1513، 1515، 1516، 1518، 1519، 1520 بقي منها إلى الآن عدد 33 كتابًا مطبوعًا كدليل ينقض ادعاء الإعدام الذي قال به السلطان لمن يعمل بالطباعة، كما أسس اليهود بالإضافة إلى العاصمة مطابع في مدن أخرى مثل “سالونيك” عام 1512، و”حلب” عام 1519، و”القاهرة” عام 1557، و “صفد” عام 1577
3- أعطى السلطان مراد الثالث عام 1588 فرمانًا لتُجار إيطاليين يأذن لهم ببيع كتب عربية وعثمانية وفارسية طُبعت في إيطاليا بعد تعرضهم للضرب في الأسواق أثناء الترويج للكتب
4– تأسست مطبعة للأرمن في إسطنبول عام 1567، ومطبعة “لليونانيين” عام 1627
رفض نابع من المجتمع:
ربما تأخرت الدولة العثمانية في استخدام الطباعة لعوامل اجتماعية وثقافية ودينية نشأت في الأساس من المجتمعات المسلمة التي تحكمها الدولة -وخارجها أيضًا- فالنظر إلى تدوين العلم بخط اليد بشكل جميل على أنه أشرف من طبع الحروف، وانتشار الناسخين والخطاطين بأعداد ضخمة في أنحاء الدولة وحيازتهم على مكانة خاصة في المجتمع، والنظر من بعض مشايخ وعلماء الدولة إلى أن أمر الطباعة قد يعمل على إدخال التحريف إلى كتب العلوم الشرعية والعمل على نشر الكتب الضارة، كل هذه العوامل اجتمعت لتشكِّل رفضًا مجتمعيًا قويًا لهذا الاختراع وتفضيل الكتاب المخطوط على الكتاب المطبوع وإن كان أسهل في الحصول عليه وأرخص ثمنًا.
إبراهيم متفرقة ودوره في اقناع الدولة العثمانية بفائدة المطبعة وضرورة تأسيسها:
ليأتي إبراهيم متفرقة ويألف كتاباً أو رسالة بعنوان “وسيلة الطباعة” وهي الرسالة التي ضمن فيها حججه و آراءه التي أقنع من خلالها “شيخ الإسلام” و “الصدر الأعظم” بضرورة إنشاء مطبعة للمسلمين، وطبع متفرقة تلك الرسالة في مطبعته بعد أن منح له الإذن بإنشائها
شرع متفرقة بوضع خطة لطباعة مجموعة من العناوين ابتداءً من عام 1729 حتى عام 1742، ونتج عنها طباعة 17 عنوانًا مختلفًا في المعاجم والسياسة والتاريخ والجغرافيا وبعدد 500 إلى 1000 نسخة لكل عنوان، فكان باكورة الإنتاج متمثلًا في معجم “وان قولو” أول عمل يرى النور من مطبعة متفرقة في مجلدين عام 1729، وهو الترجمة العثمانية لمعجم “الصحاح” اللغوي الذي وضعه “إسماعيل بن حمّاد الجوهري” في القرن الرابع الهجري، وتُرجم إلى التركية العثمانية في القرن السادس عشر بواسطة “مُحمد بن مصطفى الواني”
كما أن فترة حُكم السلطان “أحمد الثالث” 1703-1730 التي تتسم بالاهتمام بالعلم والمعرفة تماشت في مناخها العلمي على تبني أمر المطبعة بشكل رسمي، وتم إصدار فرمان يسمح لإبراهيم متفرقة بتأسيس أول مطبعة رسمية للدولة العثمانية
استمر متفرقة في طباعة الكتب بشكل منتظم حتى قبل وفاته عام 1747 ليطوي بذلك صفحة تاريخية هامة من الذاكرة التاريخية الإسلامية لتأسيس هذا الاختراع الذي ساهم في تغيير شكل العالم الإسلامي في القرون التالية