تركيا– شاركت في منتدى أنطاليا الدبلوماسي الذي تنظمه وزارة الخارجية التركية، وسط تزايد أهمية الحدث بفعل التطورات الإقليمية والدولية. تابعت وقائع المنتدى منذ انطلاقه حتى اختتامه، حيث اتسم الحضور بالكثافة والزخم اللافت.
شارك في الاجتماع العديد من رؤساء الدول ووزراء الخارجية. (من المرجح أن التطورات في السياسة الداخلية التركية قد أبعدت الاتحاد الأوروبي عن المنتدى). الضيفان الأجنبيان الأكثر جذبًا للاهتمام كانا الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. للمنتدى أجندتان: واحدة علنية انعكست في التصريحات، وأخرى غير معلنة دارت خلف الكواليس. ركزتُ على النقاط التي لم تُطرح على الرأي العام، وسأنقل هنا بعضًا من ملاحظاتي.
توازن دقيق في سوريا
الموضوع السوري معروف، فالبلاد تصارع تهديدات إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى تسعى للحفاظ على وحدة أراضيها، ورفع العقوبات الدولية عنها، وتحقيق التعافي الاقتصادي. تتعامل إدارة الشرع مع هذه المرحلة بحساسية عالية. تركيا تقدم دعمًا علنيًا، كما أن الحكومة السورية تسعى للحصول على دعم من دول الخليج أيضًا. الهدف في هذا المشهد المعقد هو إبقاء جميع الأطراف (دول الخليج، مصر، الدول المجاورة لسوريا، والدول الغربية) ضمن إطار اللعبة، ومنع أي طرف من اتخاذ موقف معرقل، نظرًا للهشاشة التي تعاني منها البلاد.
دولة قطر أيضًا تقدم الدعم لسوريا، لكن احتياجات البلاد أكبر بكثير. مشاركة وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار في لقاء الرئيس أردوغان مع الشرع كانت مهمة، لأنها سلّطت الضوء على الحاجات الأساسية والملحة لسوريا مثل الكهرباء. وأيضا إعادة إعمار البلاد ضرورة ملحة. أحد مصادر المعلومات قال لي: “دول المنطقة تتردد في تحمّل المسؤولية.”
ما دلالة لقاء علييف – الشرع؟
في ظل هذه الظروف، شارك الرئيس الشرع ووفده في منتدى أنطاليا. حاولوا الابتعاد عن وسائل الإعلام. كان من المقرر أن يلقي وزير الخارجية أسعد الشيباني كلمة في إحدى الجلسات لكنه تراجع عن ذلك لاحقًا. إلا أنهم أجروا لقاءات ثنائية مهمة على هامش المنتدى. وأكثر ما لفت انتباهي كان لقاء الرئيس الأذري إلهام علييف بالرئيس الشرع.
كما هو معلوم، هناك توتر عسكري قائم بين تركيا وإسرائيل على الساحة السورية. في وقت سابق، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “كن عاقلًا”، وفي خلفية المشهد اتُّخذ قرار بإنشاء آلية لتفادي الاشتباك بين القوات التركية والإسرائيلية. وفي هذا السياق، تدخل الرئيس الأذري علييف، فالتقى الوفدان العسكريان التركي والإسرائيلي في باكو. وكان علييف قد صرّح حينها: “نحن حليف لتركيا، لكن إسرائيل أيضًا دولة صديقة لنا.”
إذا كانت لدى إسرائيل مخاوف تتعلق بسوريا، فعليها أن توقف هجماتها وتتحدث مباشرة مع دمشق. وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وفي تصريح له رسم حدودًا واضحة لإسرائيل فيما يخص الملف السوري، وقال: “إذا كانت دمشق ترغب بالتوصل إلى اتفاق معين مع إسرائيل، فهذا شأنهم.” ولهذا السبب اعتبرت لقاء علييف – الشرع حدثًا ذا دلالة بالغة الأهمية.
آلية جديدة ضد داعش
تنشأ حاليًا آلية مهمّة من شأنها تعزيز الاستقرار في سوريا ومنع التدخل الإسرائيلي في البلاد. اسم الآلية: “مركز العمليات المشتركة”. وقد أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنها ستدخل حيز التنفيذ قريبًا. كما أوضح نائب وزير الخارجية التركي نُوح يلماز قائلًا: “لا نهدف إلى نظام إقليمي جديد، لكننا نسعى على الأقل لمساعدة سوريا في بناء قدراتها”.
بمعنى آخر، تقوم تركيا، والعراق، وسوريا، ولبنان، والأردن بتشكيل تحالف إقليمي ضد تنظيم داعش. ووفق ما هو معروف، فإن هذا المركز سيتبادل المعلومات الاستخباراتية حول العناصر الإرهابية داخل سوريا بناءً على طلب رسمي من دمشق.
لكن، ما المسؤوليات الأخرى التي ستُلقى على عاتق الدول الشريكة؟ وهل ستجري هذه الدول الخمس عمليات عسكرية مشتركة داخل الأراضي السورية؟ لم يُدلَ بتصريح رسمي حول هذا الموضوع. ولو أتيحت لي فرصة الحديث في المؤتمر الصحفي للوزير فيدان، لطرحت هذا السؤال.
من سيسيطر على غزة؟: الصين وروسيا أيضًا وقعتا على البيان
من أبرز القضايا الساخنة التي طُرحت في منتدى أنطاليا الدبلوماسي كانت قضية غزة. وكما هو معلوم، فإن إسرائيل تستعد لشن موجة جديدة من الهجمات. ولا يزال مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن “التهجير الطوعي” مطروحًا على الطاولة.
وفي حال التوصل إلى وقف إطلاق نار، تبرز مسألة في غاية الأهمية: من سيتولى إدارة غزة؟ خطة ترامب في هذا السياق ما تزال غامضة.
وفي المنتدى، عُقد اجتماع لمجموعة الاتصال التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية. وقد صدر في ختام الاجتماع بيان مشترك، وكان من بين الدول الموقعة كل من الصين وروسيا، وهو ما يُعد تطورًا لافتًا.
وقد تضمّن البيان رفضًا لخطة التهجير في غزة، ودعا إلى وضع القطاع تحت إدارة السلطة الفلسطينية. وبرأيي، يمكن قراءة هذا البيان كإجابة على التساؤل المتعلق بمن سيتولى إدارة غزة في حال التوصل إلى هدنة: هل ستكون حماس أم طرف آخر؟
قضية الدول التركية التي اعترفت بقبرص الرومية
هناك الكثير من القضايا التي تستوجب التوقف عندها، من التصريحات الاستفزازية القادمة من أثينا، إلى التنظيم الإرهابي المعادي لتركيا في قبرص الرومية، مرورًا بنقاط التوتر الممتدة من إفريقيا إلى البلقان… لكن لضيق المساحة، أختم بموضوع مهم.
ففي الأيام الماضية، قامت ثلاث دول تركية – اثنتان منها عضوان في منظمة الدول التركية – هي: كازاخستان، أوزبكستان، وتركمانستان، بالاعتراف بقبرص الرومية. وقد اتخذت هذه الخطوة بناءً على طلب من الاتحاد الأوروبي، الذي يستعد لاستثمار 12 مليار يورو في المنطقة.
ونعلم جيدًا سبب هذا الطلب الأوروبي: فبسبب امتلاك كل من قبرص الرومية واليونان لحق النقض (الفيتو)، بات لهما تأثير يتجاوز حجمهما الحقيقي داخل بروكسل.
وتُعد قضية قبرص من أكثر الملفات حساسية بالنسبة لتركيا، ولهذا جاء رد فعل غاضب من الرأي العام التركي، ويمكنني أن أتوقع وجود انزعاج واضح أيضًا داخل أنقرة، رغم عدم صدور تصريح رسمي حتى الآن.
أما الدول التركية التي اتخذت هذا القرار، فهي تسعى لتعزيز علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بدافع الخوف من ضغوط روسية وصينية محتملة. ويبدو أن لديها قناعة بأنه إذا ما تخلصت روسيا من مأزق أوكرانيا، فإنها ستزيد من ضغطها ونفوذها على هذه الدول.
لكن، لا يمكن للاتحاد الأوروبي، الذي عجز عن حماية أوكرانيا المجاورة له من العدوان الروسي، أن يدخل في صراع نفوذ في جغرافيا بعيدة كهذه. وبالتالي، فإن حسابات تلك الدول خاطئة. فالعلاقة مع منظمة الدول التركية والعالم التركي تُعد مسألة استراتيجية بالنسبة لتركيا.
نأمل أن تصحح هذه الدول موقفها، لأن الطريق المشترك بيننا لا يزال طويلًا جدًا.
المصدر: يحيى بستان-يني شفق
اقرأ أيضا:تركيا في الشرق الأوسط الجديد: لاعب أم صانع قواعد؟
اقرأ أيضا: دبلوماسية أردوغان بأنطاليا.. رسائل تركيا لغزة وسوريا وليبيا والسودان