العقيد فايز الأسمر – باحث في القضايا السياسية والأمنية الشرق أوسطية – لا شك أن الجمهورية التركية والمملكة العربية السعودية هما دولتان محوريتان ومركزيتان هامتان من دول الشرق الأوسط، بل وتتمتعان بثقل إقليمي وإسلامي وسياسي واقتصادي كبير في محيطهما الشرق أوسطي، والدولي رغم الخلافات والإختلافات في وجهات النظر، بعد ثورات الربيع العربي التي مرت بها البلاد العربية، خلافات بطريقها إلى الزوال في ظل مساعي قيادات البلدين على إصلاح ذات البين بينهما، وخاصة في ظل ما تشهده المنطقة والعالم من إحداث وتغيرات في التموضعات والتحالفات المصلحية والأمنية.
زيارة محمد بن سلمان لتركيا
عمليا لم يأتي التقارب التركي السعودي الذي نراه حاصلا في هذه الأيام سريعا أو عبثيا، أو وليد الصدفة بل كان ثمرة جهود عامين تقريبا من الإجتماعات واللقاءات، والتحركات الدبلوماسية المكوكية المعلنة وغير المعلنة، التي قام بها مسؤولين كبار من كلا البلدين هدفت إلى وضع المعطيات لتجاوز ونسيان الماضي وجسر الهوة، وتقريب وجهات النظر بين القيادتين، و اتخاذ التدابير والخطوات اللازمة لحل المشاكل، والخلافات الأساسية العالقة، التي أدت إلى التوتر والفتور في العلاقات الثنائية، والدبلوماسية والإقتصادية بين البلدين
وهذه الخلافات التي يأتي علي رأسها تداعيات قضية مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” في سفارة بلاده بإسطنبول عام 2018، الأمر الذي اعتبرته أنقرة انتهاكا لسيادتها الوطنية على أراضيها، ومطالبتها الدائمة والمستمرة بمحاسبة المخططين والفاعلين، لتشهد بعد ذلك العلاقات بين العاصمتين وبشكل متسارع وعلى كافة المستويات مزيدا من القطيعة والبعد.
في الواقع تعتبر زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية لتركيا في هذه المرحلة حدثا دبلوماسيا، وسياسيا واقتصاديا واستثنائيا لافتا تهتم به أنقرة وقيادتها إهتماما كبيرا، خاصة أن زيارة الأمير “محمد بن سلمان” الهامة هذه هي زيارة مرتقبة منذ أشهر عدة، وتأتي اهميتها كونها الزيارة الأولى التي يقوم بها الأمير ولي العهد إلى أنقرة منذ مقتل الصحافي “جمال خاشقجي”، وهي وكما بات معروفا واقصد قضية مقتل الخاشقجي بهذه الطريقة هي التي أدت بشكل كبير ودون سابق إنذار إلى التدهور غير المسبوق في العلاقات الدبلوماسية الثنائية بكافة أشكالها بين العاصمتين.
وهذه الزيارة تأتي بعد سعي أنقرة الجاد لإصلاح التوجهات الخارجية مع الدول العربية الفاعلة في المنطقة، وعلى وجه الخصوص الخليجية منها، ولهذا حدث الإتصال الهاتفي بين الرئيس رجب طيب أردوغان والملك سلمان بن عبد العزيز، ومن ثم جاءت تلبية الرئيس التركي للدعوة الملكية وقيامه بزيارة السعودية في نهاية نيسان الفائت، والتي تتوجت بلقاءه مع الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد في “جدة “، حيث تناول اللقاء الهام نقاشا وديا حول القضايا الثنائية والدولية التي تهم البلدين في هذه المرحلة الحرجة، وفي ظل المفترقات الكثيرة والخطيرة التي تمر بها المنطقة والعالم.
أهمية زيارة ولي العهد السعودي لأنقرة
من الجدير بالذكر أن ولي العهد السعودي في زيارته المرتقبة، يدرك تماما أهمية أنقرة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وأنها باتت لاعبا إقليميا ودوليا لا يمكن لأي أحد أن يتجاهله، والسعودية تأمل في قادمات الأيام بأن تكون تركيا سندا وظهيرا قويا لجناحها إن أرادت أن تأمن وتطمأن وتحلّق في سماء مزدحمة بالمتضادات، ولاسيما أن الطرفان التركي والسعودي يدركان أن المنطقة والعالم في هذه الأوقات يمرّان بصراعات وبتحولات كبرى تفرضها العديد من الأحداث والوقائع، يأتي في مقدمتها قلق الرياض من التغول الإيراني في المنطقة العربية وشعورها أنها باتت محاصرة ومستهدفة من قبل إيران واذرعها.
ويأتي ذلك بعد تدخلها ومنذ سنوات وتحملها الأعباء العسكرية والإقتصادية لإنقاذ اليمن، والحفاظ على تماسكه ووحدة أراضيه رغم عظم المسؤوليات والتضحيات، وما نجم عن ذلك من اعتداءات للحوثيين الذين وكما هو معروف يأتمرون بأوامر طهران وحرسها الثوري وينفذون أيضا بأوامرها استهدافاتهم الإرهابية الكثيرة والمتكررة التي يقومون من خلالها بتهديد الأراضي والمدن والمراكز السيادية والحيوية السعودية.
ويأتي هذا كله أيضا مع تنامي وازدياد أخطار امتلاك إيران للأسلحة النووية التي ستهدد من خلالها حتما الخليج العربي ودول المنطقة والعالم.
لاشك أن الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج عامة والمملكة السعودية خاصة في هذه الأوقات، وفي ظل تزايد بواعث قلق الرياض الدائم كونها الدولة القائدة والمحورية في الخليج العربي، باتت في ظل المتغيرات السياسية بحاجة ماسة إلى أطراف إقليمية قوية تتشارك معها وتتحالف في ضوء تقلبات السياسة الأميركية تجاه دول الخليج وبالأخص مع السعودية والتحديات الإقتصادية والأمنية الناجمة عنها، ويأتي ذلك لزاما مع ابتعاد الإدارة الامريكية الحالية عن أي هم وإهتمامات السعودية بعد أن وصف الرئيس بايدن في حملاته الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض المملكة بالدولة المنبوذة.
عمليا وبكل تأكيد فإن الرياض وقيادتها أجرت وحسبت حساباتها السياسية، فوجدت الإمكانية الحقيقية في حل معادلتها الصعبة وغايتها في نسيان الخلافات، وتجاوزها والسعي الحثيث والهادف للتقارب مع أنقرة التي وكما هو واقع باتت تعتبر محورا اساسيا قويا في المعادلات الدولية القائمة وخاصة أن تركيا تعتبر ثاني أقوى عضو في حلف الناتو، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تجاوزها أو إنكار دورها الفاعل والفعال كدولة معتدلة في حفظ التوازنات الدولية، ولذلك كان لابد للرياض أن تعي ذلك وتبادر إلى تقريب وجهات النظر وإعادة العلاقات التجارية والإقتصادية والسياحبة ورفع الحظر عن السفر إلى تركيا، والسعي إلى إعادة المياه إلى مجاريها وإلى سابق عهدها.
في المقابل فإن تركيا تعي وتدرك جيدا أهمية ومحورية الدور السعودي في قضايا المنطقة العربية والاسلامية، وثقلها الإقتصادي والتجاري والسياسي الكبير في الخليج والمنطقة العربية، ولذلك نجد أن أنقرة ايضا سعت من طرفها منذ وقت ليس بالقصير لتذليل الصعاب، ونسيان الماضي والوصول إلى ترميم واصلاح علاقاتها مع السعودية خاصة في ظل حالة التضخم الإقتصادي الذي تعيشه، وهبوط المستوى المعيشي لمواطنيها نتيجة التذبذب والتراجع الكبير في سعر صرف عملتها أمام سلة العملات، وبالتالي حاجتها الماسة وقبل خوض القيادة السياسية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى فتح الأسواق الخليجية والسعودية أمام المنتجات التركية بأنواعها، والذي سيساهم حتما الى إعادة التوازن في أداء الحكومة ونمو الازدهار الإقتصادي للبلاد.
ختاما.. يمكننا القول إنه وفي ظل حاجة البلدين الإسلاميين لبعضهما، فإن العلاقات المتوترة التي مرت بينهما بكل تأكيد لم تأتي بالنفع بكافة أوجهه وعلى كافة اصعدته لأي طرف كان. ولكن المنتظر من خلال هذه الزيارات المتبادلة، وتقارب وجهات النظر بين البلدين، وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها بل تطويرها وتطبيعها، فإنه يمكن لكل من السعودية وتركيا من خلال تعزيز وتعميق أواصر الثقة إمكانية السير الدائم باتجاه تحقيق ما يصبو اإليه شعبا وحكومتا البلدين.
اقرأ ايضا: إيران واقعية العمالة وخدعة المقاومة !
اقرأ ايضا: إيران.. الحكومة تقدمت بمشروع قرار يشرع قتل المتظاهرين ضدها
اقرأ ايضا: أجواء الفرح تعم السعودية عقب تعليق حظر السفر الى تركيا