روائع من التاريخ العثماني 4 صمونجي بابا.. العالم بائع الخبز
هذه قصة ولي من أولياء الله، اسمه “حامد آقصرايلي” ولكنه عُرف بين أهالي مدينة “بورصة” باسم “صمونجي بابا”، لأنه كان يبيع “الصمون” أي الخبز لهم.
ولد في مدينة “قيصري” وسافر في طلب العلم إلى بلاد “الشام” و “تبريز” ووصل الى “أردبيل” وهي: مدينة في شمالي غرب إيران اشتهرت بمكتبتها الكبيرة (عندما استولى الروس على هذه المدينة سنة 1828م، نقلوا هذه المكتبة الكبيرة إلى مدينة سان بطرسبرج)، وعاشت فترة من الازدهار الثقافي. وهناك التقى الولي والعالم الكبير “علاء الدين الأردبيلي” ولازمه، وبقي في خدمته سنوات عديدة، فنهل من علمه ودرج مثله في مدارج التصوف والزهد.
ثم رجع وسكن في مدينة “بورصة”، وكانت آنذاك عاصمة الدولة العثمانية، فقد كان ذلك في عهد السلطان “بايزيد الأول” (1360 – 1403م).
قضى صمونجي بابا سنوات عديدة من عمره في مدينة “بورصة” يخبز الخبز في فرنه المتواضع في البيت، ثم يضعه في سلة كبيرة يحملها على ظهره، ويمشي في الأسواق في الأزقة، وما إن يراه الصبيان حتى يهتفوا:
– جاء صمونجي بابا … جاء صمونجي بابا.
وسرعان ما يتجمعون حوله، ويبتاعون منه الخبز … كان جميع أطفال وصبيان وأهالي بورصة يحبونه، فوجهه نوراني، وهو بشوش يحب الأطفال ويلاطفهم، وخبزه حار، ولذيذ، ونظيف.
وعندما بدأ السلطان “بايزيد” ببناء جامع “أولو جامع” (أي الجامع الكبير، أو الجامع العظيم) اعتاد عمال البناء شراء الخبز من “صمونجي بابا”.
اكتمل بناء هذا الجامع الذي يعد آية من آيات العمارة الإسلامية، وتعد الآيات الكريمات التي تزينه آية في فن الخط، وتقرر افتتاحه بصلاة الجمعة.
أولو جامع في بورصة – روائع من التاريخ العثماني
ويوم الجمعة: حضر السلطان “بايزيد الأول” إلى الجامع مع الوزراء والعلماء، وجمع وفير من أهالي بورصة حتى امتلأ هذا الجامع الكبير على سعته، وعندما حان وقت الخطبة، التفت السلطان الى العالم الكبير “أمير سلطان” وكلفه بإلقاء الخطبة.
وقف أمير سلطان قرب المنبر، وبدأ يجول ببصره في الحضور، وكأنه يفتش عن أحدهم … أجل كان يفتش عن صمونجي بابا فهو يعرف قدره وعلمه، وإن جهله الناس، واعتقدوا أنه ليس إلا رجلاً طيباً يبيع الخبز … وأخيراً وقع بصره عليه … ثم قال بصوت سمعه كل الحضور، وهو يشير بيده إليه:
– ليس في هذا الجامع من هو أحق من هذا الرجل لإلقاء هذه الخطبة.
دهش الحاضرون من هذا الكلام، وبدؤوا يتطلعون إلى الجهة التي أشار إليها العالم أمير سلطان وأحس صمونجي بابا بحرج شديد، فقد كتم أمره عن الناس طوال هذه السنوات، فلا يعرفون عنه إلا أنه بائع خبز، وها هو أمير سلطان يفاجئه فيكشف أمره للناس.
اقرأ أيضاً: روائع من التاريخ العثماني (1) .. عندما دخل المسلمون إلى قارة أوروبا بثمانين مجاهداً
قام من مكانه مضطراً واتجه الى المنبر، والأنظار مصوبة إليه، وقبل أن يصعد إلى المنبر، مال على أذن أمير سلطان وهمس له معاتباً:
– ماذا فعلت يا أخي؟ لقد كشفتني أمام الناس جميعاً.
فأجابه أمير سلطان بالهمس نفسه:
– أنت الأجدر بإلقاء هذه الخطبة يا أخي.
صعد الولي المتخفي على المنبر، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قرأ سورة “الفاتحة”، وبدأ بتفسير معانيها الكبيرة من سبعة أوجه، وكانت خطبة، وتفسيراً رائعاً، أخذ بمجامع قلوب الحاضرين.
ولم يخف العالم الكبير، والمعروف “ملا فناري” الذي كان حاضراً، وسمع هذه الخطبة التي حيّرته ودهشته وأعجبته، فقال فيما بعد لأصدقائه:
– لقد شاهدنا هذا الرجل، وتبحره في العلم وفي التفسير، فالتفسير الأول للفاتحة فهمه الجميع، والتفسير الثاني فهمه البعض، والتفسير الثالث فهمه القلة، والخواص فقط، أما التفسير الرابع، والخامس والسادس والسابع، فقد كان فوق طاقة إدراكنا.
اقرأ أيضاً: روائع من التاريخ العثماني 3 .. السلطان الصاعقة سلطان الحق والصلاحية
وانتشر الخبر في أرجاء العاصمة بورصة بسرعة، وعرف الجميع حقيق هذا الرجل المتواضع الفقير، الذي يحمل سلة الخبز على ظهره، ويتجول في الأسواق وفي الأزقة، ويتلاطف مع الأطفال والصبيان … عرفوا أنه عالم كبير، وولي من أولياء الله، وانتظروا رؤيته؛ لكي يقبّلوا يديه ويسألوه الدعاء، ولكنهم لم يروه … أجل لم يروه بعد تلك الخطبة، لقد رحل هذا الولي عن بورصة بعد أن انكشف أمره … ورحل إلى مدينة أخرى لا يعرفه الناس فيها.
مات رحمه الله في مدينة ” آق صراي ” ودفن فيها.
المصدر: كتاب روائع من التاريخ العثماني – للمؤلف: أورخان محمد علي