• 29 مارس 2024

“كوت العمارة”.. النصر العثماني المنسي!

حصار الكوت (مدينة عراقية جنوب شرقي بغداد)، التي وقعت إبان الحرب العالمية الأولى بين القوات العثمانية والقوات البريطانية، وهو الحصار الأطول والأشد في الحرب العالمية الأولى، وثاني أكبر انتصارات الجيش العثماني خلاله، بعد معركة جناق قلعة إذ انتهى الحصار الذي استمر 147 يوماً أي قرابة الخمسة أشهر بهزيمة الجيش البريطاني بالكامل وقوامه 13 ألف جندي واستسلامه إلى الجيش العثماني. ووصفته الصحف البريطانية آنذاك”الاستسلام الأكثر إذلالاً في التاريخ العسكري البريطاني”

كانت العراق أحد أهم أهداف بريطانيا لما تحتويه من مصادر طبيعية وبترول وغاز طبيعي، فقررت بريطانيا حصار مدينة الكوت العراقية. وتقدمت الفرقة السادسة في الجيش البريطاني بقيادة الجنرال تشارلز فير فيريرز تاونسند نحو بغداد، إلا أنها منيت بهزيمة بعد مواجهة القوات العثمانية في معركة سلمان باك، في 22-23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1915، ما دفعها إلى التراجع إلى الكوت في الثالث من كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه

وكان الجنرال كولمار فون در غولتس باشا القائد الألماني الذي تم تعيينه في الفيلق السادس العثماني، أمر قائد الجيش العثماني في العراق وما حوله، العقيد نورالدين باشا، بمحاصرة بلدة الكوت في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1915

وبدأ البريطانيون هجوماً لإنقاذ جيشهم المحاصر في الكوت، إلا أنهم اضطروا إلى التراجع بعد أن خسروا أربعة آلاف جندي في معركة الشيخ سعد في 6 كانون الثاني / يناير 1916

وفي 13 كانون الثاني/ يناير 1916 خسر الجيش البريطاني 1600 جندي في معركة الوادي، كما فقدوا ألفين و700 جندي في معركة أم الحنة، التي وقعت في 21 كانون الثاني/ يناير

وفي مطلع آذار/ مارس عاود البريطانيون الهجوم حيث شنوا هجومًا على الفيلق 13 العثماني بقيادة العقيد علي إحسان بيك، ودارت معركة سابيس في الثامن من آذار/ مارس، بين الجانبين لتنتهي بهزيمة الجيش البريطاني ومقتل ثلاثة آلاف و500 من جنوده ثم انسحابه، الأمر الذي أدى إلى عزل الجنال أيلمر من منصبه

وفي 19 نيسان/ أبريل 1916 عُين خليل باشا قائداً للجيش السادس بعد وفاة الجنرال كولمار فون در غولتس باشا في بغداد جراء إصابته بمرض التيفوئيد، وفي 29 نيسان/ أبريل استسلم الجيش البريطاني بقيادة تشارلز تاونسند

 

البريطانيون يحاولون رشوة الجيش العثماني مقابل فك الحصار عن جيشهم

وتحت وطأة الحصار ونقص المؤن وشح المصادر، حاول البريطانيون إسقاط أكياس دقيق من الجو لإنقاذ جيشهم المحاصر، إلا أن الطائرات الحربية العثمانية أسقطت نظيرتها البريطانية، كما حاولوا إدخال المؤن عبر السفن ليلاً لكن الجنود العثمانيين صادروا تلك السفن.

ومع فشل المحاولات وطوال فترة الحصار، وبحسب الوثائق العسكرية، فإن خليل باشا أرسل تلغرافًا لقيادة الجيش العثماني أوضح فيه بأن “تاونسند عرض مبلغ مليون جنيه مقابل السماح له ولجيشه بالتوجه إلى الهند”، وطلب من أصحاب القرار في الدولة إعطاءه توجيهات بهذا الخصوص. وجاء رد قيادة الجيش العثماني لخليل باشا: “لا حاجة لنا بالنقود، يمكنكم السماح لتاونسند فقط بالرحيل مع أسر جيشه”. وفي برقية أخرى، أوضحت فيها قيادة الجيش أنه يمكن السماح لتاونسند بالذهاب بحرية إلى المكان الذي يريد، مقابل استسلامه مع جنوده وتعهده بألا يعتدي على الجيش العثماني، طوال فترة الحرب

القيادة البريطانية ترفع الراية البيضاء تحت وطأة الحصار

من جانبه طلب تاونسند من خليل باشا التوسط له من أجل “السماح له ولمساعده وثلاثة من أتباعه، بنقلهم إلى اسطنبول، معلنًا استعداده لتسليم جنوده

وأوضح تاونسند في برقيته لخليل باشا “السيد خليل باشا، الجوع يجبرنا على ترك السلاح، لذا فإنني بناء على عهدكم بأن جنودنا الأبطال سيحلّون ضيوفًا مكرمين لديكم، أعلم جنابكم العالي باستعدادي لتسليم جنودي لكم”. وأضاف تاونسند في برقيته “نحن مستعدون لتسليم كوت العمارة، عقب الاستجابة لشروطنا، وتسريع عملية نقل المؤن”، مردفًا “أعرض عليكم زيارة الجرحى، حيث ستشاهدون من بترت أقدامهم وأيديهم، أو من حل به الهزال والمرض جراء الجوع، ولا أعتقد أنكم ستأخذونهم أسرى حرب، وأعرض نقلهم إلى الهند بدل ذلك

وأعلن تاونسند عقب استسلامه للجيش العثماني، أنه سينتقل إلى اسطنبول ومنها إلى لندن، وهنأ خليل باشا على نصره. كما بعث تاونسند برقية إلى مقر قيادة القوات البريطانية في أوروبا، أفاد فيها بأن فوجًا من الجيش العثماني اقترب من الكوت استعدادًا لاستلام الجنود البريطانيين، وأنهم رفعوا الراية البيضاء فوق أسوار المدينة

وفي صباح يوم الـ 16 نيسان/ أبريل، بدأت عملية أسر تاونسند وجنوده المحاصرين البالغ عددهم 13 ألفا و100 جندي


قيادات الجيش البريطاني يسقطون أسرى حرب لدى الدولة العثمانية
ويشار إلى أن الجنود البريطانيين أتلفوا أسلحتهم خلال الليل، ثم بدأوا في الاستسلام للجيش العثماني صباحاً. فيما أرسل تاونسند ومعاونه وأتباعه الثلاثة إلى اسطنبول، كأسرى حرب. وبعد النصر العثماني الكبير الذي تحقق في الكوت، رفع قائد الفوج الثالث العثماني، النقيب نظمي، العلم العثماني على مبنى الحكومة في الكوت، كما رُفعت راية الفوج على مقر الجنرال تاونسند. وقالت رسالة تلقتها قيادة الجيش العثماني، تشرح ما حدث في الكوت “لقد تلقى الإنكليز مرة ثانية، الدرس الذي سبق أن تلقوه في جناق قلعة، وفهموا أنهم لن يتمكنوا من كسر المقاومة العثمانية، ومن أخذ غنائم من يد العثمانيين

انتصار يتوج التاريخ العثماني

وقال خليل باشا في رسالة إلى الجيش السادس العثماني بعد نصر الكوت “سقط 350 ضابطاً و10 آلاف جندي من جيشنا، شهداء في الكوت، إلا أن المعركة أفضت في النهاية إلى استسلام 13 جنرالاً و481 ضابطاً، و13 ألف و300 جنديا من الجيش البريطاني، كما انسحبت القوات التي كانت تحاول إنقاذ الجيش البريطاني، بعد أن سقط منها 30 ألف قتيل

وأضاف خليل باشا “نحن أمام فرق كبير إلى درجة تدهش العالم. سيجد المؤرخون صعوبة في إيجاد كلمات لوصف هذه المعركة، كانت جناق قلعة النصر الأول الذي كسر فيه ثبات العثمانيين عناد الإنكليز، وأمامنا هنا النصر الثاني

بدوره قال العقيد كاظم قره بكر، قائد الفيلق العثماني الـ 18 في خطاب مكتوب “فلنحمد الله الذي وهبنا نصراً لم يشهده تاريخنا منذ مائتي عام (…) هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها الحربة التركية التاريخ الإنكليزي

ووفقاً لوثائق عسكرية في أرشيف رئاسة الأركان التركية، فإن قائد الجيش العثماني آنذاك، خليل باشا، كتب عقب استسلام الجيش البريطاني في 29 نيسان/ أبريل 1916، أن “التاريخ سيواجه صعوبة في إيجاد كلمات لتسجيل هذا الحادث”. وأعلن خليل باشا النصر في معركة كوت العمارة بهذه الجملة “إن ثبات العثمانيين كسر عناد الإنكليز، فكان النصر الأول في جناق قلعة، والثاني هنا

ووصف المؤرخ البريطاني جيمس موريس معركة الكوت بأنها “الاستسلام الأكثر إذلالاً في التاريخ العسكري البريطاني“، حيث بدأت المعركة بحصار الجيش العثماني للقوات البريطانية والحلفاء في بلدة الكوت الواقعة على ضفاف نهر دجلة جنوب شرقي العراق، وانتهت بسيطرة العثمانيين على الكوت واستسلام كامل الجيش البريطاني

يذكر أن الجيش العثماني الذي حقق انتصاراً أسطورياً في الكوت، كان يضم قوات تركية وعربية قاتلت جانباً إلى جنب، في واقعة تاريخية لا تزال تذكر اليوم على ألسنة المسؤولين الأتراك كمثال على المصير المشترك والتلاحم والوحدة بين العرب والأتراك

فريق التحرير

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *