• 2 مايو 2024

نجم الدين أربكان.. عراب الإسلام السياسي في تركيا

أبصر نجم الدين أربكان النور في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1926، بمدينة سينوب على شاطئ البحر الأسود، بعد 5 أعوام على سقوط الدولة العثمانية بشكل نهائي وقيام الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك.

نجم الدين أربكان في قونية

نجم الدين أربكان قبل دخوله معترك السياسة

أنهى نجم الدين أربكان دراسته الثانوية عام 1943، وبرغم توجهاته الدينية وحلمه بعودة طبيعة الحياة في بلاده كما كانت في الدولة العثمانية، إلا أنه التحق بكلية الهندسة الميكانيكية بجامعة إسطنبول التقنية والتي تخرج منها مهندسا عام 1948، ذلك العام الذي شهد أشد نكبة في العالم العربي والإسلامي، ألا وهي قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين.

وعمل نجم الدين أربكان أستاذا معيدا في نفس الكلية التي تخرج منها، نظرا لتفوقه ولذكائه وخبرته التي شدت إليه جميع أساتذته ورفاقه في الجامعة، وطيلة سنتين تنقل المهندس الشاب مدرسا لمئات المهندسين الذين سيكون لهم بعد ذلك دور مهم في النهضة التقنية لتركيا.

حصل أربكان على منحة إلى ألمانيا لدراسة هندسة المحركات في جامعة آخن عام 1951، ونال منها سنة 1953 شهادة الدكتوراه، وعاد إلى بلاده بعد ذلك مهندسا مرموقا وأستاذا جامعيا بكلية الهندسة في جامعة إسطنبول التقنية، وقد استمر في هذا المنصب من 1954 إلى 1966.

تمكن نجم الدين أربكان من وضع بصمته بجدارة على الحداثة الصناعية في تركيا المعاصرة، وتولى عدة مناصب مهمة في مجالات التجارة والتنمية الاقتصادية بشكل عام.

كما حاول نجم الدين أربكان ابتكار صنع أول سيارة تركية تعمل بالكهرباء، لكن المحاولة لم تبصر النور في عهده وقتها.

بداية المشوار السياسي لأربكان

بالتزامن مع مواصلة نجم الدين أربكان ابداعه في عالم الهندسة، كانت حياته السياسية تتقلب بين صعود وهبوط بحسب ثنائية الانتخابات والانقلابات التي طبعت تركيا لأكثر من ثمانين سنة من تاريخها المعاصر.
وبدأت الملامح الإسلامية تبزغ من جديد في فترة الخمسينيات بعد تراخي حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك قليلاً وسماحه بإنشاء أحزاب أخرى عام 1946، وبات الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس يرفع شعارات إسلامية ويشرع بإعادة الرونق الديني لتركيا، ولكن لم يلبث حتى أطاح بمندريس وحكومته انقلاب عسكري عام 1960، وتم تنفيذ حكم الإعدام بحق مندريس وبعض رجال حكومته.

بدأ نجم الدين أربكان مشواره السياسي بعضوية بارزة في حزب العدالة الذي كان يتزعمه صديقه في الدراسة سليمان ديميريل في ستينيات القرن الماضي، بعد سنة من حكم العسكر وإعدام مندريس.

حاول حزب العدالة تقديم نفسه على أنه وريث شرعي وفكري لرسالة الحزب الديمقراطي وتراث الشهيد مندريس، وفي 1965 فاز حزب العدالة بأغلبية مقاعد البرلمان، وشكل الحكومة مسيطرا على الحياة السياسية في البلاد، ليكون على موعد مع انقلاب عسكري سنة 1971، فقد كان العسكر يولون عناية خاصة لحماية العلمانية في تركيا، ويرون في كل انتعاش ديمقراطي ردة عن العلمانية نحو أفكار ونظام الخلافة.

تأسيس حزب النظام وحظره

انتُخب أربكان عضوا في مجلس النواب عن مدينة قونية عام 1969، بعد مشاركته في الانتخابات البرلمانية كمستقل بسبب رفض حزب العدالة ترشيحه، وانطلق يخطط ويرسم لنفسه خطاً سياسياً وفكريا بعيدا عن حزب العدالة، ومناهضاً للديكتاتورية العلمانية.

وفي 26 كانون الثاني/يناير 1970، أسس أربكان حزب النظام، وكان الحزب أول واجهة سياسية للإسلاميين في تركيا، وبذلك سحب الورقة الإسلامية من يد حزب العدالة.

أكد البيان التأسيس لحزب النظام على التراث الإسلامي التركي، وعلى دور النظام الإسلامي في حماية وتطوير تركيا، ولم يكتف البيان بذلك، بل اعتبر هذا النظام هو الحل الوحيد لجميع مشكلات العالم، لأنه هو النظام العادل.

وقد استطاع الحزب أن يدخل البرلمان عبر ثلاثة نواب هم نجم الدين أربكان وحسين آقصاي وعارف حكمت، وجميعهم منسحبون من حزب العدالة، لكن هذا الحزب لم يطل عمره، بل إنه لم يتجاوز سنة واحدة، حيث حظره الانقلاب العسكري في 12 مارس/آذار 1971، بعد أن استفز الانتشار المتصاعد للخطاب الإسلامي خصومهم العلمانيون.

وتمكن الحزب من دخول البرلمان بثلاثة نواب هم نجم الدين أربكان وحسين آقصاي وعارف حكمت، وجميعهم منسحبون من حزب العدالة.

وبعد أقل من عام على تأسيس حزب النظام، تم حظره بانقلاب عسكري في 12 مارس/آذار 1971، خوفاً من تصاعد الخطاب الإسلامي الذي كان ينتهجه الحزب، وغادر نجم الدين أربكان بعد ذلك للإقامة فترة قصيرة في سويسرا، وكانت استراحة محارب، باحثا عن ورقة سياسية جديدة.

حزب السلامة الوطني والدخول في الحكومة

عاد نجم الدين أربكان وأسس حزب السلامة الوطني في أكتوبر/تشرين الأول 1972، الذي نال 50 نائبا في انتخابات 1973 البرلمانية.
كما تحالف أربكان مع حزب الشعب الجمهوري، فكان نائبا لرئيس الوزراء بولنت أجاويد، رئيس حزب الشعب الجمهوري، وتم تشكيل حكومة جديدة في 26 يناير/كانون الثاني 1974.

وتولى عناصر من حزب أربكان مناصب رفيعة مثل الداخلية والعدل والصناعة، وبدأ مسار آخر من تغلغل الإسلاميين في كواليس وأروقة السلطة.

وانتهج نجم الدين أربكان نهج ميالا للسلم والهدوء مبتعدا عن الشعارات، ونتج عن سياسة الحكومة آنذاك، غزو قبرص ووضع اليد على الشق التركي منها، وهو عمل يرى أربكان أنه كان صاحب فكرته والمخطط الأساسي له.

حزب الرفاه.. أول إسلامي يصل إلى الحكم منذ سقوط الدولة العثمانية

لم يستكين قادة الجيش التركي على التغيرات التي حصلت في الحكومة، وتعاظم دور الإسلاميين رويدا رويدا، وتغلغل أتباع أربكان في السلطة، فنفذوا انقلاب في 12 سبتمبر/أيلول 1980، وجرى حل حزب السلامة الوطني وفرض اقامة جبرية على بعض قياداته، ومنهم نجم الدين أربكان وشوكت قازان وخطيب أوغلو وغيرهم من زعماء الحزب المحظور.

لكن لم تفتر عزيمة نجم الدين أربكان ولم يتملكه اليأس، فعاود الكرة مرة أخرى، وأسس في في 19 يوليو/تموز 1983 حزب الرفاه، للمشاركة في الحياة السياسية من جديد.
وتمكن الحزب الجديد مرغم المضايقات، من المشاركة في مختلف الفعاليات الانتخابية التي جرت بعد تأسيسه.

وقد كان غيابه عن المشهد من أبرز أسباب النجاح الباهر الذي حققه حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال اليميني المدعوم من الجيش، مسيطرا بذلك على المشهد السياسي طيلة عقد الثمانينيات ومنتصف التسعينيات.
واستطاع حزب الرفاه بزعامة أربكان، الفوز بأصوات 21% من أصوات الناخبين الأتراك في انتخابات ديسمبر/كانون أول 1995، حاصدا 158 مقعدا من أصل 550 في البرلمان التركي، ليصبح الحزب الأول في البرلمان، متقدما على حزبي الطريق القويم، والوطن الأم.
وزلزل هذا الفوز أوساط السياسة في تركيا، واستطاع نجم الدين أربكان بعدها في يونيو/حزيران 1996 من تشكيل حكومة ائتلافية متحالفا مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر التي شغلت منصب نائب الرئيس، ليكون أول إسلامي يصل إلى مقاليد الحكم في تركيا، منذ الإطاحة بالدولة العثمانية.

التعايش مع العلمانية

نظم حزب الرفاه في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1996، مؤتمره الوطني الخامس، الذي غابت عنه الشعارات الإسلامية، وصنفه مؤرخو تلك الحقبة على أنه مؤتمر التحولات الكبرى في مختلف أصعدة وتوجهات الحزب.

وبدأ أربكان يقلم أظافر سياسته القديمة، وشعاراته تجاه الاتحاد الأوروبي، وكذا العلاقة مع واشنطن، وبدا جليا أن الرجل يسعى سعيا حثيثا إلى التعايش أكثر مع العسكر أو تحييد غضبهم على الأقل، وذلك من خلال الاصطفاف إلى جانب العلمانية، والتأكيد على أنها جزء أساسي من رؤية الرفاه وهوية تركيا.

غير أن هذه البراغماتية في العلاقة مع العسكر، تعززت بانفتاح غير مسبوق على الدول الإسلامية، فبدأ ولايته بزيارة إيران وليبيا، وأسس مجموعة الثماني الإسلامية التي شكلت أول قطب اقتصادي إسلامي يضم تركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا.

كما حاول أربكان التملص من اتفاقية التعاون مع إسرائيل، قبل أن يتلقى تهديدا عمليا من الجيش بالإطاحة به إذا لم يوقع الاتفاقية، وبعد عشرة أيام من المماطلة وقع الرجل مكرها اتفاق تعاون مع تل أبيب دون أن يقبل زيارتها في أي وقت من الأوقات.

عاصفة العسكر واستقالة أربكان

تصاعدت وتيرة الحنق في المؤسسة العسكرية التركية، وذلك لعدة أسباب أهمها:

  1.  زيارات نجم الدين أربكان في أكتوبر/ تشرين الأول 1996، إلى إيران ومصر وليبيا ونيجيريا.
  2. زيارة أربكان إلى ولاية قيصري وسط البلاد مطلع 1997، واستقباله من طرف أعضاء حزبه مرتدين زيا موحدا يغلب عليه الطابع الديني.
  3. أمسية داعمة للقدس بالعاصمة أنقرة نظمها رئيس بلدية قضاء سنجان المنتمي إلى حزب الرفاه، وذلك في 31 يناير/ كانون الثاني 1997، وقد دعا السفير الإيراني في تركيا لحضورها.

وقبل تلك الأحداث، وجه مجلس الشورى العسكري الذي انعقد في آب/أغسطس 1996، انتقادات لحكومة أربكان على خلفية ما وصفه بتصاعد “الأنشطة الرجعية”، وجاء انعقاد المجلس وسط حالة من تعالي الأصوات حول “تعرض نظام الحكم للتهديد” في البلاد.

ونتيجة لكل ما سبق، فرض مجلس الأمن القومي التركي شروط مجحفة على الحكومة، ومن بينها تنقية المؤسسة العسكرية من الضباط ذوي الميول الإسلامية، وتحويل مدارس الأئمة والخطباء إلى مدارس مهنية بعد أن ظلت لعقود مدارس دينية خالصة، وقد كان هذا التحويل فرصة ذهبية صنعت بعد ذلك جيلا من الكفاءات التركية ذات التخصصات المختلفة، والميول الدينية الواضحة.

ولم يصمد أربكان أمام هذه الهجمات والظروف، واستقال تاركاً منصبه الى نائبته رئيسة حزب الوطن الأم تانسو تيشلر.

المعركة الأخيرة مع العلمانية

تأزمت العلاقة بشكل متزايد بين أربكان والنظام العلماني عام 1998، وتمت احالته الى القضاء الذي حكم عليه بمنعه مزاولة النشاط السياسي لمدة 5 سنوات.
وكعادته أربكان، وبالرغم من تقدمه في العمر، أسس حزب الفضيلة، ومنح رئاسته لأحد تلاميذه ومقربيه، وسرعان ما وقع حظر الحزب من جديد سنة 2000.

فأعاد الكرة مرة أخرى بتأسيس حزب السعادة برئاسة تلميذه رجائي طوقان، ليكون آخر محطة من محطات العمل السياسي للرجل الذي عاش من أجل الإسلام وحمل رايته وجعلها ملفه السياسي الأكثر أهمية ووفاء واستقرارا في حياته السياسية والفكرية.

نهاية مشوار أربكان السياسي

حُكم على أربكان بالسجن سنتين وهو بعمر الـ 67 بتهمة اختلاسه أموال من حزب الرفاه المحظور، وبدا جليا أن مشكلة العسكر والعلمانيين هي مع شخص أربكان وفكره في آن واحد، وأنهم لن يتقبلوا وجوده في المشهد السياسي للبلاد مجدداً.

وبناء عليه راجع تلاميذ أربكان خطهم السياسي، وأسسوا حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، الذي لمع نجمه وقتها أثناء رئاسته لبلدية إسطنبول.

وتمكن أردوغان ورفيقه عبد الله غول أن يواصلا مسيرة معلمهم أربكان، ولكن بواقعية شديدة استفادت من متغيرات المجتمع التركي الذي تغلغلت فيه قيم الإسلام بشكل كبير خلال عقود نضال أربكان، وبشيء من الواقعية أيضا استطاع الحزب أن يحيد الخطاب الإسلامي المباشر، ويعلن تشبثه العميق بالعلمانية.

وصول تلاميذ أربكان إلى الحكم

خرج أربكان من العمل السياسي متوكئا على عكاز الإصرار والعزيمة، وعلى تاريخ طويل من مغالبة العلمانية، وتحت إقامة جبرية، وقد وجد الرجل في مصحفه ومسبحته ودفتر الأيام المفعمة بالنضال والصراع والانتصارات والإخفاقات ما يسليه عن محنة المنع.

خرج أربكان من المشهد السياسي في تركيا، بعد تاريخ طويل من الإصرار والعزيمة والكفاح ضد العلمانية، وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية رفقة مصحفه ومسبحته وذكرياته.

وانطلق تلاميذ أربكان في حزب العدالة والتنمية، وكانوا قد أبقوا على زعيمهم في الإقامة الجبرية، لمواجهة العلمانية المتجذرة في الجيش والإدارة والإعلام والدبلوماسية، ولاحقا أصدر الرئيس التركي عبد الله غول عفوا شاملا عن معلمه نجم الدين أربكان سنة 2008.

وتوفي أربكان يوم الأحد 27 فبراير/شباط 2011 في أحد مستشفيات مدينة أنقره، مودعا العالم عن عمر ناهز 84 سنة، وشارك في جنازته أعداد هائلة من المواطنين، وكذلك عدد من أبرز قادة الحركات الإسلامية في العالم.


وبرحيله سنة 2011، أنهى أربكان مسيرة ستة عقود من النضال من أجل الفضيلة والسعادة والرفاه والسلامة الوطنية التي لم ير لها سبيلا غير “النظام العادل” الذي لم يكن في رأيه غير الإسلام الصحيح.

اقرأ أيضا: أردوغان يترحم على أربكان في ذكرى رحيله

اقرأ أيضا: أردوغان: نجم الدين أربكان ساهم في ممارسة المسلمين للسياسة المدنية الديمقراطية

 

محرر مرحبا تركيا

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *