• 28 مارس 2024
 العثمانيون والتراث الإسلامي.. حُماةٌ لا بُغاة

العثمانيون والتراث الإسلامي.. حُماةٌ لا بُغاة

كانت مطابع الأستانة، وعلى وجه الخصوص مطبعة الجوائب، رائدة في مجال نشر كتب التراث باللغة العربية، ولقد كان للموسوعات العلمية التي ألفها العثمانيون دورا كبيرا في حفظ بعض كتاب التراث العربية، والتي كادت أن تضيع، إلا أن ذكرها في هذه الموسوعات أتاح للعرب التعرف على ما ضاع منها، ومن هذه الموسوعات “مفتاح السعادة ” الذي صنفه “طاش كوبري زادة”، و “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” تأليف حاجي خليفة.
وأعظم أعمال العثمانيين في حماية التراث الإسلامي هي وجود هذا الكم الهائل من المخطوطات العربية وتجمعها في مكتبات تركيا خاصة إسطنبول، وبذلك صانت هذه الكتب من الضياع المحتمل جراء الاستهداف الغربي للبلاد العربية.
في كتابه “الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات”، يقدر المؤرخ والمفكر المصري أيمن فؤاد سيد عدد المخطوطات العربية في المكتبات التركية بحوالي 300 ألف مخطوط، وفي المكتبة السليمانية وحدها ما يقدر بحوالي 200 ألف مخطوط عربي، محاطة بعناية فائقة، وتنفق عليها الدولة أموالا كثيرة، يستفيد منها الباحثون من شتى أنحاء العالم.
ولعل سائل يسأل: ألا يعتبر وجود هذا الكم الهائل من المخطوطات العربية في المكتبات التركية دليلا على نهب العثمانيين مكتبات العرب وسرقتها ونقلها إلى إسطنبول؟
1 – نجيب ابتداءً، بمقولة للمؤرخ الدكتور حسين فوزي النجار، “التراث العربي هو كل ما كتب بالعربية بصرف النظر عن جنس صاحبه، فإن الإسلام قد جب هذا التقسيم وقطعه في جميع الشعوب القديمة”، وبناء على ذلك فجميع الأمة الإسلامية هم شركاء في هذا التراث الإسلامي المكتوب بلغة القرآن، وهناك علماء وفلاسفة أتراك ساهموا في هذا التراث العربي أمثال ابن سينا والفارابي ومحمود الكاشغاري وغيرهم، ومن ثم فإن الأتراك يتشاركون مع العرب في هذا التراث.
2 – وبما أن العثمانيين قد آلت إليهم زعامة العالم الإسلامي منذ الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي، فإنه قد وقع على عاتقهم حفظ هذا التراث، وبالتالي لا يسوغ توصيف نقل بعض التراث العلمي الإسلامي إلى إسطنبول بأنه نهب وسرقة، ويدل عليه محتوى السطور اللاحقة.
3 – هناك أسباب عدة لوجود المخطوطات العربية في المكتبات التركية غير نقلها المباشر إلى إسطنبول، فجزء منها انتقل عن طريق الهدايا، فكما قال المستشرق الألماني هلموت ريتر إن كثيرا من هذه الكتب اشتراه أصحاب المجموعات الكبيرة أو أهداه إليهم أتباعهم.
وسبب ثان، أن الأستانة عندما صارت عاصمة للخلافة الإسلامية، ترتب على ذلك ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن سكانها كانوا يتنافسون في شراء الكتب واستنساخها على نحو شرعي على غرار ما كان يُفعل في عواصم الحضارات الإسلامية (بغداد، والقاهرة، وقرطبة)، والأمر الثاني: أن كثيرا من العلماء العرب قد انتقلوا إليها باعتبارها حاضرة الخلافة الإسلامية، وكان من الطبيعي أن ينقلوا معهم إنتاجهم الفكري المكتوب، والأمر الثالث: أنها بكونها عاصمة الخلافة الإسلامية فإن ذلك يعني أن تكون موردا لقدوم العلماء والباحثين من مختلف الأقطار، وبالتالي كان من الضروري أن تعم الفائدة بتراكم الكتب والمخطوطات.
4 –لم يشتهر عن أحد من المؤرخين توصيف نقل بعض المكتبات إلى إسطنبول بأنه نهب وسرقة، والمدقق في تاريخ بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس، يرى بوضوح أن الرجل يتحامل على العثمانيين كثيرا باعتباره شركسيا، ورغم أن شهادته من أجل ذلك تكاد تكون مجروحة، فإنه عندما عدد “مساوئ” العثمانيين في مصر في عهد سليم الأول، لم يذكر من بينها أن العثمانيين سرقوا ونهبوا الكتب والمكتبات، وقطعا لو كان كذلك لمَا فوّته ابن إياس دون ذكره والتأكيد عليه.

5 – عندما حدثت كارثة مكتبة بغداد في عهد هولاكو، وتم نقل ما أمكن إنقاذه من الكتب إلى القاهرة في حكم المماليك، فهل يعد ذلك النقل نهبا وسرقة؟ قطعا لا، فقد غدت القاهرة هي العاصمة الجديدة للخلافة التي كانت صورية تابعة لمصر، ومن ثم كان نقلها تأمينا لهذا التراث الإسلامي، فلماذا يُتهم العثمانيون بسرقة ونهب المكتبات رغم أنهم حافظوا عليها بعد أن نقلوها لعاصمة الخلافة الإسلامية الجديدة؟
6 –هنا يبرز سؤال هام: ماذا فعل العثمانيون بالكتب العربية التي تجمعت في مكاتبها؟ هل كانت مجرد مخزون من الكتب تتفاخر به؟
يجيب د. سامي الصقار المؤرخ والمحقق السعودي في العدد 44 من مجلة الفيصل عن هذا السؤال: “الكتب العربية التي تجمعت في تركيا لم تكن مجرد مخزون كتبي للتباهي به، بل إنها استخدمت في مئات المدارس والكليات التي عمت أنحاء البلاد”.
إن قيام العثمانيين بحفظ هذا التراث للأمة ينسجم مع اهتمامهم بالنهضة العلمية في جميع الأقطار التابعة للحكم العثماني، فمنذ تأسيس الدولة وحكامها يحرصون على إنشاء المدارس والمحاضن التعليمية، كان أولهم أورخان، ثم ابنه مراد الأول، وأنشأ الفاتح عدة مدارس بعد فتح القسطنطينية، وأما سليمان القانوني فكانوا له باع طويل في هذا المضمار، حيث أنشأ مدارس في مكة والمدينة، وأنشأ كلية السليمانية، والعديد من المدارس، وفي عهده منحت المدارس الجامعة العليا تعليما بدرجة جامعات اليوم، وأصبح خريجوها أئمة أو معلمين.
هناك العديد من مظاهر اهتمام العثمانيين بالتعليم لا يتسع المجال لذكرها، والشاهد من ذلك: أنه كيف لدولة تحكم المسلمين أن تهتم بالتعليم في كل أنحاء البلدان الواقعة تحت نفوذها، ثم تعمد إلى نهب تراث تلك البلدان وهدم ثقافتها؟

فريق التحرير

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *