تاريخ التراويح
في ظروف استثنائية تعمّ العالم ولم تعهدها البشرية؛ يستقبل المسلمون رمضان هذا العام بفرحة غامرة مشوبة بأسى بالغ: فرحة بمقدمه وهو ربيع أرواحهم، وأسى لما حيل بينهم وبينه من تلاقٍ للمؤمنين -باختلاف طبقاتهم أعمارا وأقدارا- طوال لياليه المباركة في رحاب التراويح بمساجدهم العامرة بالإيمان، بعد أن عطلت الصلاةَ فيها -بمعظم بلاد المسلمين- إجراءاتُ حرب فيروس كورونا العالمية.
وفي هذا المقال؛ سنقدم نبذة تاريخية عن هذه الشعيرة المحببة إلى القلوب المؤمنة في شهر القرآن، فنروي باختصار كيف بدأت منذ فجر الإسلام، ونرى بعض ما اعتراها تاريخيا من مسحات اجتماعية كادت تخرجها من حيز العبادات (الدين) إلى دائرة العادات (التدين)، ونكشف جانبا من تأثرها بتاريخ المسلمين ومؤثراته المختلفة عقديا وفقهيا وسياسيا واجتماعيا، وكيف تعطلت أحيانا بعوامل مختلفة، ثم نعرض لذكر مشاهير من أعلام جمْعها أئمةً ومأمومين. وسنكتشف -أثناء ذلك كله- أن كثيرا من ممارساتنا المقترنة بهذه الشعيرة العظيمة لم تكن وليدة اليوم، بل ورثناها منذ حقب متطاولة.
مبادرة عُمَرية
يلخص لنا العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي (ت 909هـ) أصل نشأة صلاة التراويح في الإسلام بقوله: “لا يتوهم متوهم أن التراويح من وضع عمر (ض) ولا أنه أول من وضعها، بل كانت موضوعة من زمن النبي (ص)، ولكن عمر (ض) أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها، فإنهم كانوا يصلون لأنفسهم فجمعهم على قارئ واحد…، وسميت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم يستريحون فيها بعد كلّ أربع”.
وقبل ابن المبرد بستة قرون؛ حدد لنا “شيخ المؤرخين” الطبري تاريخ صدور أمْر عمر بجمع الناس لصلاة التراويح فقال إنه كان في سنة 14هـ “وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به”. وقد خصص عمر قارئا للصلاة بالرجال وآخر للصلاة بالنساء؛ ولعلّ أمهات المؤمنين لم يكنّ –نظرا لمكانتهن الخاصة- يشهدن تراويح النساء العامة، كما يُفهم ذلك من الأثر الذي يقول إن “ذكوان مولى عائشة (ض) كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف”.
وحفظت لنا كتب التاريخ والتراجم أسماء القراء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه المهمة؛ فذكرت من قراء الرجال: أبيّ بن كعب الأنصاري (ت 22هـ) الذي “كان يصلي بهم عشرين ركعة”، ومعاذ بن الحارث الأنصاري (ت 63هـ). وأما قراء النساء فهم: تميم بن أوس الداري (ت 40هـ) الذي ورد أيضا أنه صلاها بالرجال، وسليمان ابن أبي حثمة القرشي، وعمرو بن حُرَيث المخزومي (ت 85هـ).
ومن الأوّليات المتعلقة بتاريخ التراويح؛ ما يرويه أبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ) -في ‘المسالك والممالك‘- عن سفيان بن عيينة (ت 198هـ) من أن “أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ)، وكان الناس يقومون في أعلى المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة”.
وقد استقرّ حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السنة- على أنها “سنة” لا “فرض” وساقوها مثالا نموذجيا على “البدعة الحسنة” شرعا عند القائلين بها؛ لكن بعض هؤلاء العلماء ذهب إلى أنه “لا يجوز تركها في المساجد… لكونها [صارت] شعارا [للمسلمين]، فتلحق بفرائض الكفايات أو السُّنن التي صارت شعارا… كصلاة العيد”.
كما استحبوا أن “يُزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد” بتعليق المصابيح؛ قائلين أيضا إن “أول من فعله عمر بن الخطاب لما جمع الناس في التراويح”؛ ورووا في ذلك أن علي بن أبي طالب (ض) “مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل تـُزهِر، فقال: نوّر الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا”.
ومع أن جماهير المسلمين ساروا على نهج الصحابة في إقامة شعيرة التراويح في رمضان؛ فإنه ظهرت آراء أنكرت شرعيتها باعتبارها “بدعة عُمَرية”؛ كما ترى طوائف الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية. ونسب المقريزي (ت 845هـ) إلى الفرقة النَّظـّامية من المعتزلة قولها إنه ”لا تجوز صلاة التراويح”.
أئمة مشاهير
تنوعت الطبقات والفئات الاجتماعية التي جاء منها أئمة التراويح عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ فكان منهم أساطين العلماء والقراء الكبار، ومشاهير الرحالة والتجار، وحتى الفراشون العاملون في المساجد. فقد تولى إمامتها “شيخ المفسرين” الإمام الطبري (ت 310هـ)، و”شيخ المقرئين” في عصره أبو بكر ابن مجاهد البغدادي (ت 324هـ)، و”شيخ الواعظين” الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ). وقد استمع ابن مجاهد هذا إلى صوت معاصره وبلديه الطبري -وهو يؤم الناس في التراويح بمسجده ببغداد- فقال: “ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يُحسن [أن] يقرأ هذه القراءة”!!
ويذكر الإمام ابن عساكر (ت 571هـ) أن شيخه المقرئ أبا الفتح الأنصاري المقدسي (ت 539هـ) كان “يصلي التراويح في مسجد علي بن الحسن” بدمشق. وأبو جعفر ابن الفَنَكي الشافعي القرطبي (ت 596هـ) “كان الناس يتزاحمون على الصلاة خلفه التماسا لبركته واستماعا لحسن صوته، وحين مجاورته بمكة.. كان أحدَ المتناوبين في قراءة التراويح برمضان…، وقراءتُه تُرِقُّ الجماداتِ خشوعًا”.
ومن أئمتها الذين صار لهم شأن في التاريخ العلمي الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني (ت 728هـ)؛ فقد قال تلميذه المؤرخ ابن الوردي المعري الكِندي (ت 749هـ) في ترجمته له: ”وصليتُ خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته خشوعا، ورأيت على صلاته رقة حاشية تأخذ بمجامع القلوب”.
وكان من أئمتها الفقيه الرحالة الشهير المقدسي البشاري (ت 380هـ)؛ فقد حدثنا عن زيارته لليمن فقال إن أهل عدن “يختمون في رمضان في الصلاة ثم يدعون ويركعون، وصليتُ بهم التراويح بعدن فدعوت بعد السلام فتعجبوا من ذلك”.
ومن أئمة التراويح التجار أبو علي الهلالي الحوراني المقرئ التاجر (ت 546هـ)، والتاجر المكي الكبير الخواجا جمال الدين ابن الشيخ علي الجيلاني (ت 824هـ) الذي “حفظ القرآن الكريم وصلى به التراويح فى مقام الحنفية [بالحرم المكي] سنة ست عشرة وثمانمئة”. ومن أئمتها الفراشين أحمد بن عبد الله الدوري المكي (ت 819هـ) “الفراش بالحرم الشريف [بمكة]، وكان يصلي بالناس صلاة التراويح في رمضان”.
ومن أغرب قصص مشاهير “أئمتها” ما أورده المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) من أن الحبر اليهودي الكبير موسى بن ميمون القرطبي “أسلم بالمغرب [مُكْرَهاً أيامَ الموحدين] وحفظ القرآن واشتغل بالفقه؛ ولما قدم [بحراً إلى مصر] من الغرب صلى بمن في المركب التراويح في شهر رمضان”، وحين اطمأنّ مقامه في مصر عاد إلى ديانته الأصلية وصار “رئيساً على اليهود” فيها وقاضيا لقضاتهم أيام سلطنة صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ).
مهارة وإتقان
ومن نماذج أئمة التراويح المهرة الذين اعتادوا ختم القرآن فيها في ليلة واحدة ونحوها؛ قاضي القضاة بدمشق أبو الحسن عماد الدين الطرسوسي الحنفي (ت 748هـ) الذي “كان يحفظ القرآن في أقل مدة، حتى إنه صلى به التراويح في ثلاث ساعات وثلثيْ ساعة بحضور جماعة من الأعيان”. ومع أن مفهوم “الساعة” عند الأقدمين مختلف عن مفهومه اليوم؛ فإن احتمال مبالغة المؤرخين في قصر وقت الختمات يظل واردا.
وكان المقرئ أبو الحسن كمال الدين الحميري الإسكندري المالكي (ت 694هـ) “يصلي التراويح في كل ليلة بختمة كامل الشهر كله”، كما كان المقرئ أبو محمد الحربي (ت 587هـ) “يصلي بالناس التراويح في رمضان كل ليلة بنصف ختمة”.
وكان من أئمتها من يخصص ختمة لكل عشر ليال من رمضان؛ فقد أخبرنا المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوَالَ (ت 578هـ) -في كتابه ‘الصِّلَة‘- أن أبا القاسم خَلَف بن يحيى الفهري الطليطلي (ت 405هـ) “كان سكناه بالنَّشارين (= حيّ النجّارين)، وهو إمام ‘مسجد اليتيم‘ بقرطبة…، [و]كان يقوم في مسجده في رمضان بتسعة أشفاع (= 18 ركعة) على مذهب مالك، ويختم فيه ثلاث ختمات: الأولى ليلة عشر، والثانية ليلة عشرين، والثالثة ليلة تسع وعشرين”.
وقد اعتاد كثير من أئمة التراويح صلاتها بالقراءات السبع وأحيانا العشر؛ ومنهم أبو علي الهلالي الحوراني المتقدم ذكره الذي ”كان يصلي بجامع دمشق… صلاة التراويح ويقرأ فيها بعدة روايات يخلطها، ويردد الحرف المختلف فيه”. وأبو العباس البَرَداني البغدادي الضرير (ت 621هـ) “كان يقرأ في التراويح بالشواذّ رغبة في الشُّهرة”، وكذلك المقرئ محمد بن أحمد المقدسي الشافعي (ت 885هـ) الذي “صلى للناس التراويح في رمضان بالقرآن بتمامه، كل عُشر منه [بقراءة] إِمام من [القراء] العَشرة”.
ومن مشاهير أئمتها الذين مكثوا عشرات السنين وهم يؤمون الناس فيها أبو علي الحسن بن داود القرشي الأموي الكوفي (ت 352هـ)؛ فقد كان “صاحب ألحان، صلى بالناس التراويح في جامع الكوفة ثلاثا وأربعين سنة”؛ وأبو عبد الله النيسابوري المُزكِّي (ت 392هـ) “صلى بالناس التراويح ثلاثا وستين سنة بالختمة”. وكريم الدين أبو جعفر العباسي الخطيب (ت 574هـ) “خطب بجامع القصر [في بغداد] وصلى التراويح نحوا من خمسين سنة”.
تراويح الخاصة
كان من العادات الاجتماعية المرتبطة برمضان انتقاءُ أئمة مميزين -متانةَ حفظٍ وجودةَ أداءٍ وجمالَ صوتٍ- ليصلّوا التراويح بالسلاطين وذوي المكانة الاجتماعية؛ ومن أمثلة ذلك ما أورده الإمام الذهبي (ت 749هـ) من أن الخليفة العباسي “المستظهر بالله (ت 512هـ) طلب مَن يصلي به…؛ فوقع اختياره على القاضي.. ابن الدواس…؛ [و] من كثرة إعجابه به كان أول رمضان قد شرع في التراويح فقرأ في الركعتين الأولييْن آية آية، فلما سلم قال له المستظهر: زدنا من التلاوة! فتلا آيتين آيتين، فقال له: زدنا! فلم يزل [يستزيده] حتى كان يقوم كل ليلة بجزء” من القرآن.
كما كان المقرئ أبو الخطاب الكاتب الشافعي البغدادي (ت 497هـ) ”يصلي بأمير المؤمنين المستظهر باللَّه التراويح”. وأفاد الذهبي أيضا بأن زين القضاة سلطان بن يحيى القرشي الدمشقي (ت 530هـ) “صلّى التراويح بـ[المدرسة] النِّظامية [ببغداد]… وخلع عليه الخليفة” العباسي. وكان المقرئ أبو القاسم الأشقر البغدادي “يؤم بالخليفة الظاهر (العباسي ت 623هـ)، ورتبه إماما.. في صلاة التراويح، وأذن للناس في الدخول للصلاة” معهم بمسجد قصر الخليفة.
وفي الأندلس؛ كان ابن مقاتل القيسي الغرناطي (ت 574هـ) “حافظا لكتاب الله تعالى، ضابطا لوجوه قراءاته، طيّب النغمة به…، مختارا للإمامة في التراويح بمسجد غرناطة الأعظم”. واستمع سلطانُ الموحدين المنصور إلى تلاوة المقرئ أبي الحسن الفهمي القرطبي (ت 617هـ) “فأخذ بقلبه طِـيبُ نغمته وحُسن إيراده، فقربه واستخلصه، وأمره بتعليم أولاده وقراءة حزب من التراويح في رمضان”.
وكان أبو بكر الأنصاري القرطبي (ت 614هـ) “حسن الصوت، يستدعيه الأمير لصلاة التراويح”. وأبو الحسن ابن واجِب القيسي البلنسي (ت 637) كان “من أحسن الناس صوتا بالقرآن، ولذلك كان يُعيَّن لصلاة التراويح بالوُلاة”. وجاء في ترجمة ابن الوزير البلنسي أنه “صلى التراويح بالوُلاة”. وكان محمد بن قاسم الأنصاري الجياني “طيّب النغمة…، وصلّى التراويح بمسجد قصر الحمراء”.
وأورد قاضي القضاة المؤرخ ابن خلكان (ت 681هـ) أن الوزير الأيوبي صفي الدين بن شكر الدميري (ت 630هـ) “أراد قارئا للمدرسة التي أنشأها بالقاهرة المعزية يصلي بها التراويح، فاختير له شخصان اسم أحدهما زيادة والآخر مرتضى”.
وحتى كبار العلماء كانوا يختارون أحيانا غيرهم ليؤمهم في التراويح؛ فقد قال أبو حفص المؤدب: “صليتُ مع أحمد بن حنبل (ت 241هـ) في شهر رمضان التراويح وكان يصلي به ابن عُمير”. وترجم السخاوي للمقرئ بدر الدين بن تَقِيّ القباني (ت 844هـ) فقال: “كان يؤم شيخَنا [ابنَ حجر (ت 852هـ)] في التراويح بالمدرسة المنكوتمرية إلى أن مات”.
وذكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) أن الإمام القعنبي (ت 221هـ) -وهو أحد كبار رواة ‘الموطأ‘ عن الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ)- كان من تلامذته ابن عباد النسائي المعروف بالجلاجلي (ت 287هـ) فـ”قدمه [إماما] في صلاة التراويح فأعجبه صوته”. وفي المقابل؛ كان بعض أجلاء الأئمة يفضلون صلاتها بأنفسهم وفي بيوتهم، فقد “كان الشافعي (ت 204هـ) لا يصلي مع الناس التراويح [في المسجد]، ولكنه كان يصلي في بيته ويختم في رمضان ستين ختمة”!!
أصوات مرغوبة
لطالما كان حسن الصوت أحد معايير الترجيح بين أئمة التراويح عند تعددهم في البلد أو الحي الواحد؛ بل إن شرف الدين كبريت المولوي (ت 1070هـ) يقول إن “من محاسن الشام إحياء ليالي رمضان المعظم، وإقامة التراويح بأحسن أداء يورث النشاط، فإن المكبرين يلوّنون في التكبير بالأصوات الحسنة، فيبتدئون بمقام العراق ويختمون بمقام العشاق”!!
ومن أئمة التراويح المقصودين قديما لحسن أصواتهم أو جمال أدئهم في القراءات؛ المقرئ أبو البركات بن العسال الحنبلي (ت 509هـ) الذي “كان من القراء المجوّدين، الموصوفين بحُسن الأداء، وطيب النغمة، يُقصد في رمضان -لسماع قراءته في صلاة التراويح- من الأماكن البعيدة”. وكذلك أحمد بن حمدي أبو المظفر المقرئ (ت 576هـ) الذي “كان من القراء المجودين… بالقراءات الكثيرة…، وكان الناس يقصدونه ويسمعون قراءته في التراويح”.
وشمس الدّين الزرعي ابن البصال المقرئ (ت 738هـ) “كان حسن الصوت جدا، وكان الناس يقصدونه للصلاة خلفه في التراويح ويزدحمون” في مسجده. وكان المقرئ محمد بن علي الشيرجي المكي (ت 827هـ) “حسن الصوت بالقراءة، وحين كان يصلي التراويح بالمسجد الحرام كان الجمعُ يَكْثُر لسماع قراءته”.
وحدثنا المقريزي أن إمام “المدرسة البقرية” بالقاهرة زين الدين أبا بكر النحوي ”كان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته، وطيب نغمته، وحسن أدائه، ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ”.
ويقول المؤرخ السخاوي (ت 902هـ) إن ناصر الدين أبا الخير الأنصاري الخزرجي الأخميمي الحنفي “أمَّ في التراويح بجامع الحاكم [بالقاهرة] وغيره.. وتزاحم الناس لسماعه والصلاة خلفه”. كما يخبرنا أن أحمد بن محمد البلقيني الشافعي القاهري (ت 838هـ) “كان حسن الصوت بالقرآن جدا، فكان الناس يهرعون إلى سماعه -سيما في قيام رمضان- من الأماكن النائية، بحيث يضيق الشارع بهم”.
ويبدو أن أئمة التراويح ذوي الأصوات المُطرِبة أغروا بحسن تغنّيهم بالقرآن حتى غير المسلمين، كما نجد في قصة الإمام علي بن عبد الله البَرَداني (ت القرن 4-5) الذي “كان يلقب مصطبانس”، فسأله أحدهم عن مصدر لقبه الغريب هذا فأجابه: “كنت أصلي بقوم التراويح في شهر رمضان فسمع قراءتي قوم من النصارى، فاستحسنوها وقالوا: كأن قراءة هذا الرجل قراءة مصطبانس! يشيرون إِلَى قسّ لهم، فلقبني الناس بذلك”!!
ولم يكن حسن الصوت وحده عامل مفاضلة بين أئمة التراويح؛ بل ربما كان تخفيف أحدهم في تراويحه محببا لدى طوائف من المصلين، ومن ذلك أن أحمد بن عبد الله الدوري المكي (ت 819هـ) “كان يصلي بالناس [في الحرم المكي] صلاة التراويح في رمضان، ويصلي خلفه الجمع الكثير لكثرة تخفيفه، ويلقبون صلاته بالمسلوقة”!! وأبو بكر ابن حُبيش البغدادي الضرير (ت 314هـ) كان “يقرأ بصوت شجيّ يقع في القلوب، ويصلي بالناس التراويح في الجامع” ببغداد.
حظر سياسي
أشرنا سابقا للخلاف الطائفي في مدى شرعية التراويح؛ ولكن المنع السياسي لإقامتها المؤيد بقوة السلطان كان أقوى تأثيرا من تلك الآراء الفِـرَقية التي ظلت محدودة الانتشار زمانا ومكانا؛ فقد عُرف الفاطميون –وهم مؤسسو دولة الشيعة الإسماعيلية- بمنع صلاة التراويح في حقب من تاريخ حكمهم الذي شمل الغرب الإسلامي ومصر والشام والحجاز. فقد خاطبوا أتباعهم -وهم ما زالوا في طور الدعوة قبل تأسيس الدولة- قائلين: “مذهبنا ألا تُصلَّى التراويح لأنها ليست من سنة النبي (ص) وإنما سنها عمر”.
ويخبرنا سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) أن الخليفة الفاطمي المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله (ت 334هـ) خالف سيرة أبيه وجدِّه في الحكم فـ”أقام التراويح والسُّنن” في تونس قبل خروجهم منها إلى مصر. وأفاد المؤرخ ابن سعيد الأنطاكي (ت 458هـ) بأنه في سنة 370هـ منع الخليفة الفاطمي العزيز بالله (ت 386هـ) صلاة التراويح بمصر فـ”عظُم ذلك على كافة أهل السُّنة من المسلمين”.
لكن خلَفـَه الحاكم بأمر الله (ت 411هـ) سمح بإقامتها مؤقتا ثم منعها عشر سنوات حتى كانت عقوبة من يصليها الإعدام؛ فقد قال المقريزي إنه في سنة 399هـ أمر الحاكم بـ”قتل رجاء بن أبي الحسين من أجل أنه صلى صلاة التراويح في شهر رمضان”. وفي المسجد الأقصى بالقدس ضُرب الشيخ الصالح أبو القاسم الواسطي (ت القرن 4-5هـ) حتى أوشك على الهلاك لأنه اعترض على “أمر السلطان ]الفاطمي[ بقطع صلاة التراويح”.
ثم سمح الحاكم بصلاتها مرة أخرى سنة 408هـ وأصدر بذلك قرارا رسميا قرئ في مساجد مصر وغيرها، فاستمرت إقامتها حتى وفاته؛ وكانت دوامة المنع والإذن تلك للتراويح من أمثلة قرارات الحاكم المزاجية التي عُرف بها عهده المتقلب المواقف والقرارات.
وفي الجناح الشرقي من الخلافة العباسية؛ منع “الحشاشون” -وهم فصيل إسماعيلي منشق عن الدولة الفاطمية الأمّ بمصر- صلاة التراويح بالمناطق التي سيطروا عليها في فارس وخراسان، ثم سمحوا بإقامتها في نهاية عمر كيانهم. فقد ذكر المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ) أنه في سنة 608هـ “قدم بغدادَ رسولُ جلال الدين حسن (ت 618هـ) صاحب [قلعة] ألَمُوتْ يخبر الخليفة [الناصر العباسي (ت 622هـ)] بأنهم تبرؤوا من الباطنية، وبنوا الجوامع والمساجد…، وصلّوا التراويح في شهر رمضان؛ فسُرَّ الخليفة والناس بذلك”.
ولم تكن القرارات السياسية المدفوعة بالتحيزات المذهبية هي الوحيدة التي تعطلت بسببها التراويح؛ إذ ترصد كتب التاريخ بعض الأزمات العامة أو الحروب التي تزامن وقوعها ببعض البلدان الإسلامية مع حلول رمضان، فتوقفت جراءها صلوات الجماعة -بما فيها التراويح- كليا أو جزئيا. فقد أورد ابن الجوزي -في أحداث سنة 439هـ- أنه “في رمضان غلا السعر ببغداد، وورد كتاب من الموصل أن الغلاء اشتد بها حتى أكلوا الميتة، وكثر الموت حتى إنه أحصِي جميع من صلى الجمعة فكانوا أربعمئة”. وإذا تعطلت الجمعة في رمضان -وهي شعيرة واجبة الأداء- فمن باب أولى أن يتوقف المصلون عن إقامة التراويح وهي نافلة.
وفي الغرب الإسلامي يقدم لنا المؤرخ المغربي أبو العباس الناصري (ت 1315هـ) -في كتابه ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- نصا صريحا في تعطل التراويح بسبب الاضطراب الأمني؛ فيقول إنه “لما قُـتل السلطان عبد الملك بن زيدان (السّعدي سلطان المغرب المتوفى 1040هـ)… بويع أخوه الوليد بن زيدان (ت 1045هـ)…، وعظمت الفتن بفاس حتى عُطلت الجمعة والتراويح من جامع القرويين مدة، ولم يصلِّ به ليلة القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب”!!
محاريب متعددة
كان من أغرب سمات إقامة التراويح في الحرم المكي تعددُ محاريبها وجماعاتها وفقا للمذهب الفقهي، وهو مشهد آخر من مشاهد تمزق وحدة المسلمين تاريخيا حتى وهم يجتمعون في حرم كعبتهم الموّحِّدة، ويؤدون شعيرة موَّحَّدة النُّسُك، وضمن طائفة واحدة (أربعة مذاهب سنية)!!
فكان “يصلي إمام الشافعية في مقام إبراهيم تجاه باب الكعبة، ثم إمام الحنفية مقابل حِجْر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، ثم إمام الحنابلة مقابل الحَجَر الأسْود”؛ طبقا لوصف مجير الدين العليمي الحنبلي (ت 928هـ).
وهي عادة بدأ العمل بها على الأقل منذ سنة 497هـ ولم تختف إلا بعد إكمال آل سعود سيطرتهم على الحجاز سنة 1344هـ؛ ففي سنة 497هـ حج الإمام أبو طاهر السِّلَفي (ت 576هـ) فوصف تعدد محاريب المذاهب في الحرم المكي وكيف يكون ترتيبهم في أداء الصلوات. وقد تحدث بعده بقرون المؤرخ السمهودي (ت 911هـ) عن تقليد تعدد المحاريب المذهبية وانتشاره في الأقطار، فقال إن “هذا الأمر دبّ إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة...، وكذا جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر قديما”، وانتقل أيضا إلى مسجد الخليل بفلسطين.
ويصور لنا ابن جبير الكناني الأندلسي (ت 614هـ) في رحلته مظاهر الاحتفال برمضان في مكة كما شاهدها؛ فيقول إنه لما دخل رمضان سنة 579هـ “وقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك.. حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا (حسب المذهب الفقهي)..
كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد… وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية”. وقد يتعدد أئمة تراويح المذهب الواحد، فالمالكية مثلا “اجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة”.
كما يحدثنا الرحالة الأندلسي القاضي أبو البقاء البلوي (ت بعد 767هـ) عن مشاهداته الرمضانية في “المسجد الأقصى… أعظم مساجد الدنيا” حين زاره في رحلته إلى المشرق، ويصف كثرة جماعات التراويح فيه؛ فيقول: “ولقد عددت مواضع الإشفاع وصلاة التراويح بها في شهر رمضان المعظم فألفينا نحو الأربعين موضعا”.
وأحيانا تتدخل السلطات لتنظيم فوضى التراويح المتعددة في المسجد الواحد وما ينتج عن هذا التعدد من تداخل لأصوات الأئمة المقرئين وتشويش للمصلين المستمعين؛ إذ يذكر الإمام ابن كثير (ت 774هـ) أنه كان في الجامع الأموي بدمشق محاريب متعددة للمذاهب الأربعة، ولكن في زمنه تدخلت السلطة لتوحيدهم “في صلاة التراويح، [فـ]ـاجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدَّم عند المنبر”.
وفي رمضان سنة 926هـ أمر حاكم دمشق العثماني “إمامَ الحنفية بالجامع الأموي… بأن يتروّح (= يصلي التراويح) بالمقصورة ليلة… و[يصليها الإمام] الشافعي ليلة، وفُعل ذلك وتركت التراويح بمحراب الحنفية، ولم يسهل ذلك على متعصبي الشافعية”.
إمامة الصبيان
ومن الأمور الطريفة التي اقترنت -على مدى قرون- برمضان “إمامة الصبيان” للتراويح في بعض جوامع الحواضر الكبرى وفي الحرم المكي خاصة؛ رغم أنه وقع ”في صلاة التراوِيح خَلْفَ الصبيان اختلافٌ” بين العلماء في صحتها.
ومن أقدم نماذج ذلك تاريخيا ما ذكره الرحالة المقدسي من أن أهل شيراز “يصلون التراويح… ويقدّمون فيها الصبيان”، وما قاله ابن الجوزي (ت 595هـ) عن اختيار سلطان البويهيين ببغداد في سنة 395هـ كلا من أبي الحسين بن الرفاء وأبي عبد الله بن الزجاجي وأبي عبد الله بن البهلول -وكانوا “من أحسن الناس قراءة”- ليكونوا أئمة رسميين “لصلاة التراويح.. وهم أحداث (= غير بالغين)، وكانوا يتناوبون الصلاة.. ورغب [الناسُ] لأجلهم في صلاة التراويح”.
وقد أصبح عادةً في الحجاز ومصر أن يؤم الطفلُ الناسَ في التراويح إذا أكمل حفظ القرآن وأتم اثنتيْ عشرة سنة من عمره، ولذلك نجد في ‘رحلة ابن جبير‘ معلومات وافرة عن إمامة الصبيان في التراويح بالحرم المكي والاحتفالات المصاحبة لها، والتي جعلت بعضهم يقرّر أن من “محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد وصلاة التراويح بمكة”.
فقد ذكر ابن جبير أن “ليلة إحدى وعشرين خَتم فيها أحد أبناء أهل مكة…؛ فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبا، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى [وليمة في] منزله.. ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتِم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة…، وحضر الإمامُ الطفلُ فصلى التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ونساء، وهو في محرابه”.
وامتدت عادة إمامة الأطفال في تراويح الحرم إلى عهد الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ) وما بعده؛ إذ يخبرنا في رحلته أن لكل مذهب فقهي محرابا خاصا بأصحابه، وأنهم ”في كل ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة؛ فإذا ختم نُصب له منبر مزين بالحرير وأوقد الشمع وخطب، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات”.
وجاء في ترجمة القاضي الشافعي جلال الدين البلقيني (ت 824هـ) أنه “حفظ القرآن وصلى به التراويح وهو صغير”. والحافظ ابن حجر “حضر ليلةً من ليالي رمضان بجامع الحاكم للصلاة خلف ابن الكُويز، إذ صلّى للناس التراويح عقب ختمه القرآن على جاري عادة الأولاد”.
كما أن الإمام ابن حجر نفسه أمَّ الناس في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتا عشرة سنة عام 785هـ ”على جاري العادة” في مَن يُكمل حفظ القرآن من الأطفال. بل إن قاضي مكة ومفتيها محب الدين بن ظهيرة (ت 827هـ) “حفظ القرآن الكريم… وصلى التراويح في سنة تسع وتسعين وسبعمئة”، وعمره حينها عشر سنوات فقط لكونه وُلد عام 789.
مقادير ومؤلفات
أما مقادير ركعات التراويح تاريخيا فإنها اختلفت وفقا لاختيارات المذاهب الفقهية؛ وإذا أخذنا بما استقر عليه الأمر في الحرمين الشريفين فسنجد أن عدد ركعاتها ظل مختلفا فيهما طوال أكثر من ألف سنة، ولم يتّحد الأمر فيهما حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري في ظل الحكم السعودي.
فقد كان المكيون -وفقا لابن بطوطة- يصلون “التراويح المعتادة وهي عشرون ركعة” ثم يتبعونها بركعات الوتر الثلاث، وأما المدنيون فقد عزا النووي (ت 676هـ) إلى الإمام الشافعي قوله: “رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر”.
ويفيدنا السخاوي بأنه في أواخر القرن الثامن كان المحدّث الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي الكردي (ت 806هـ) من مدرسي الحرم النبوي في المدينة، وعلى يديد تغير عرف المدنيين في عدد ركعات التراويح؛ إذ كان “يصلي التراويح بالناس عقب صلاة العشاء عشرين ركعة ويوتر بثلاث، فإذا كان آخر الليل صلى بالناس ست عشرة ركعة. واقتدى به في ذلك الأئمة بالحرم النبوي”.
هذا وقد بينت كتب الفقه العامة وشروح الحديث النبوي أحكام صلاة التراويح ومقاديرها، كما أفردها بعض العلماء بمؤلفات خاصة بها يبدو أن أغلبها لم يصلنا منه إلا عنوانه. ومن تلك المصنفات: كتاب “فضل التراويح” للحافظ أبي بكر محمد بن الحسن النقاش (ت 351هـ)؛ و”كتاب التراويح” للإمام حسام الدين الشهيد (ت 536هـ)؛ و”كتاب التراويح” لمفتي خوارزم أبي العباس أَحْمد بن إِسْمَعِيل التُّمُرْتَاشِيّ الحنفي (ت قرابة 600هـ).
ومنها أيضا: كتاب “صلاة التراويح” للمحدّث ابن عبد الهادي الجمّاعيلي الحنبلي (ت 744هـ)؛ و”ضوء المصابيح في صلاة التراويح” و”إشراق المصابيح في صلاة التراويح” كلاهما لقاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756هـ)؛ و”إقامة البرهان على كميّة التراويح في رمضان” لأبي الضياء الغيثي الشافعي (ت 975هـ).
هكذا إذن على مدى التاريخ الإسلامي؛ ظل احتفاء المسلمين بصلاة التراويح عظيما وشاملا، إذ أقبلت على تفيؤ ظلال إيمانياتها كافة الفئات والشرائح في المجتمعات المسلمة رجالا ونساء وأطفالا، حتى إن الرحالة ابن بطوطة يحدثنا عن “سوق المغنين” في الهند فيقول إن فيه مساجد، وإن “النساء المغنيات الساكنات هناك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويَؤُمُّ بهن الأئمة وعددُهن كثير، وكذلك الرجال المغنّون”.
وحين وصف المقريزي “سوق الشمّاعين” بالقاهرة المملوكية ذكر أنه “كان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يُشترى ويُكترى من الشموع الموكبية…. برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح”.
ويروي أبو البركات السويدي البغدادي (ت 1174هـ) ذكرياته الرمضانية في دمشق حين زارها؛ فيقول واصفا التراويح بالجامع الأموي وما كان يرافقها من حفاوة اجتماعية تصل حد الضجيج: “ومن عجيب أمرهم أن النساء يختلطن بالرجال… وقت التراويح، ومرة صليتُ التراويح في [الجامع] الأموي فرأيت الناس جلوسا بين الصفوف يتحدثون، والأولاد لهم صياح وعياط ولعب بحيث يشوشون على المصلين”!!