• 19 مارس 2024

تاريخ اللغة التركية القديم والحديث

 

تعدُّ اللغةُ التركية الأناضولية أو الإسطنبولية جزءًا من اللغات التركية، التي لطالما أحاط الغموضُ تاريخَها، ولا يزال العلماءُ حتى يومنا هذا مختلفين بشأن أصولها، إلا أن عددًا كبيرًا منهم يرى بأنها تنتمي للغات الألطية التي تعود تسميتُها إلى جبال التاي في شرق آسيا، وتشملُ اللغات التركية والمنغولية والمنشورية، بالإضافة لاعتقاد الكثيرين بأن اليابانية والكورية تعدّ لغاتٍ ألطية كذلك.

 

اختلف العلماءُ حول تأريخ اللغات التركية، فالبعضُ يرجعها إلى 5000 سنة والبعض الآخر إلى 8000 سنة وأكثر، إلا أن التغييرات الكثيرة التي جرت عليها جعلت من اللغات التركية القديمة غير مفهومة بالنسبة للشعوب التي عاشت في فترة ما بعد الميلاد. وتعد التركية الأناضولية والتي ترجع أصولها إلى فترة دخول السلاجقة بلاد الأناضول، أقدم لغة تركية شبيهة بتركية القرن الواحد والعشرين عثر على مخطوطاتٍ كتبت بها.

وفي سنة 1070 للميلاد ألّف الفيلسوف التركي يوسف خاص حاجب كتابًا في النصيحة والأخلاق، اعتبره المؤرّخون أقدم نصٍّ تركي مكتوب كتابة متكاملة حتى الآن. وفي نفس تلك الفترة قام محمود الكاشغري، بنشر أول قاموسٍ تركي شامل، ويعدّ الكاشغري أحد اللغويين التُّرك من خانية القرة خانة، وقد وُلد في تركستان الشرقية وعاش حياته في العراق ونشر قاموسَه فيها.

 

اعتنق التُّركُ الإسلام في منتصف القرن العاشر وكان في مقدمة معتنقيه أهل خانية القرة خانة والسلاجقة، الشعبان اللذان يعدّا أسلافَ العثمانيين. ونتيجةً لذلك تأثرت التركيةُ باللغتين العربية والفارسية بفعل احتكاك التُّرك بالمسلمين في بلاد فارس والعراق وبلاد الشام، حتى باتَ الشعراءُ التُّرك يعتمدون أوزان وقوافي الشعر الفارسي في قصائدهم.

 

ومع ولادة الإمبراطورية العثمانية، اعتُبرت التركيةُ اللغة الرسمية فيها طوال فترة حكمها (1299 – 1922). وسمّيت بالتركية العثمانية، وهي مزيجٌ من الثلاث لغات: التركية، والعربية، والفارسية، معتمدةً الحروف العربية. وتعدُّ جزءًا من العائلة اللغوية؛ الأوغوز. كان متحدّثوها من أبناء المدن والطبقات المتعلمة والمرموقة، أما أبناء الطبقات الفقيرة والريف فإن قسمًا كبيرًا منها لم تكن هذه اللغة مألوفة لهم، بل كانوا يتحدّثون لغةً عُرفت باسم التركية الغليظة وهي أكثر نقاوةً من التركية العثمانية وتشكّل اليوم أساس التركية الأناضولية.

 

وبعد قيام الجمهورية التركية سنة 1923، أعلن رئيسُها مصطفى كمال أتاتورك إنشاء جمعية اللغة التركية عام 1932، بهدف القيام بأبحاث حول هذه اللغة، وإصلاحها وإعادة تشكليها عبر استبدال ما أمكن من الكلمات ذات الأصل العربي والفارسي بما يُقابلها من التركية، وقد نجحت الجمعيةُ باسترجاع بضع مئاتٍ من الكلمات ذات الأصول التركية بعد أن منعت الحكومةُ الجرائدَ والصحف من استخدام المصطلحات الأجنبية وفرضت عليهم استبدالها بالمصطلحات التركية وفقًا لما تقرّه الجمعية.

وبالرغم من محاولة أتاتورك استرجاع المصطلحات التركية واستبدال الأحرف العربية باللاتينية، إلا أنه وفي خطابة الشهير أمام البرلمان التركي الحديث سنة 1927 تحدّث بالتركية العثمانية، الأمر الذي اضطرّ الأجيال الجديدة إلى ترجمة الخطاب لثلاث مرات في كل من 1963، و1986، و1995 إلى التركية المعاصرة التي تُعرف بالأناضولية أو الإسطنبولية، فالجمعية لا زالت تستحدث كلماتٍ جديدة بشكلٍ مستمر، الأمر الذي تسبّب في صنع فجوةٍ مفاهيمية بين الأجيال فقد باتت لدى كل جيلٍ لغةٌ مختلفةٌ خاصةٌ به لا يفهمها الجيلُ الذي يليه.

 

وقد تعرّضت الجمعيةُ إلى الكثير من الانتقادات بسبب استقدامها التعابير الإنجليزية والفرنسية وتحريفها عن معناها الأصلي، كما تمّ رفضُ العديد من الكلمات التي أقرّتها من قبل المجتمع الذي اعتبرها زائفة، ممّا اضطرّ الجمعية لتعديل الكثير من مصطلحاتها وتعابيرها. وأثارت التغييرات التي فرضتها جدلًا سياسيًا واسعًا، وأخذت الجماعاتُ المحافظة تتعمد استخدام تعابير وكلمات قديمة في المنشورات الصحفية المنسوبة إليها، وفي خطابها العاميّ اليومي.

 

وعلى الرغم من اعتماد جمعية اللغة التركية سياسة توحيد اللهجات عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وعبر مناهج التعليم المدرسية والجامعية، منذ العقد الرابع من القرن العشرين، ما زال بالإمكان ملاحظةُ التباين في لهجات ولكنات المناطق المختلفة داخل تركيا. وتضمّ التركية الأناضولية حوالي 40 لهجة اليوم، ولا زالت الدراساتُ لإحصاء اللهجات الأناضولية جاريةً في الجامعات والمؤسسات العلمية في محاولةٍ للوصول لعددٍ أكثر دقة.

 

مؤخرًا، وبعد استلام رجب طيب اردوغان رئاسة الجمهورية التركية، أعلن عن عزم الحكومة التركية إحياء اللغة التركية العثمانية المكتوبة بأحرف عربية وإدراجها في المناهج التدريسية الرسمية في تركيا. وقد برر أردوغان هذا القرار بقوله إن “اللغة تعتبر بمثابة الوصف الرئيس للحضارة والذاكرة، بل والوصف الذي من خلاله تبنى الأمم، وبدونها تفنى”.

 

وأضاف قائلًا: “بسلبكم اللغة من مجتمع ما، تكونون قد سلبتموه حضارته وذاكرته. أقول هذا باعتبارنا أمة دفعت الثمن غاليًا لسلبنا لغتنا. فالاعتداء على لغة مجتمع ما يعني الاعتداء على دين هذا المجتمع وثقافته وفنونه وآدابه”. وتابع القول: “من الظلم البين للغات اعتبارها مجرد وسيلة تخاطب واتصال، لأن اللغة أكبر من ذلك، فهي حضارة وقلب وذاكرة. وديمومة الأمم والشعوب تكون في لغتها وعاداتها وتقاليدها وتنشئتها لأبنائها”.

 

كما تساءل أردوغان إن كان هناك شعب في العالم لا يستطيع أبناؤه أن يقرؤوا لغة أجدادهم التي كتبت قبل مئة عام فقط؟ مشيرًا إلى أن الأمة التركية باتت عاجزة عن قراءة ملايين الوثائق الموجودة في دور المحفوظات الضخمة في البلاد؛ وذلك لانقطاعها عن اللغة التي كُتبت بها.

 

وقد فجّرت نية حزب العدالة والتنمية الحاكم عاصفة من الجدل داخل الأوساط السياسية والمجتمعية التركية، بين فريق رأى في الخطوة تقدماً على طريق إتقان الأجيال للغة أجدادهم وحضارتهم السابقة، وبين من اعتبرها ارتكاسة إلى الوراء وردة عن إرث أتاتورك والجمهورية الحديثة، فاعتبر زعيم المعارضة التركية، كمال كيليتشدار أوغلو أن تدريس العثمانية “سيعود بالأتراك نحو العصور الوسطى”، أما النائب عن حزب “الشعب الجمهوري” المُعارِض، حسين أيغون، فقال إنه لن يسمح لابنه بأن يدرس اللغة العربية أو العثمانية، وإنه “يفضل أن يرسب على أن يفعل ذلك”.

 

ما رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، فرأى أن تعهد أردوغان يرتكز على أحد مقترحات المجلس الأعلى للتعليم التي أُعدت سابقًا. وأضاف: “لا أعرف لماذا كل هذه الحساسية مع العثمانية، إذا ما كان هنالك طالب يرغب في دراستها فليفعل، وإذا لم تكن لديه فلن يختارها، هذا هو المقترح”، مشيرًا إلى أن “البعض يعتقد بأن العثمانية لغة أجنبية. إنها التركية التي نستخدمها اليوم ولكنها مكتوبة بحروف أخرى”.

 

ويُذكَر أن التركية تضمُّ أكثر من 55 لغة مقسّمةً إلى ستة عوائل، تعرّض بعضُها للانقراض ولا زالت 35 لغةً منها قيد الاستخدام. وتنتمي التركيةُ الأناضولية إلى عائلة الأوغوز، وتعدُّ اللغةَ الرسمية للجمهورية التركية، وإحدى اللغتين الرسميتين في قبرص، كما أنها لغةٌ رسميةٌ إقليميةٌ في كوسوفو وفي عدة ولايات في جمهورية مقدونيا، وفي ألمانيا يوجدُ حوالي مليوني متحدثٍ للغة الأناضولية.

 

المصدر : ترك برس

فريق التحرير

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *