قبل ثمانية أعوام في 15 يوليو/تموز تعرضت تركيا لمحاولة انقلاب فاشلة، خططت لها ونفذتها عناصر محدودة من الجيش تابعة لتنظيم غولن الإرهابي، محاولين سلب إرادة الشعب. غير أن الشعب التركي كان لهم بالمرصاد وتصدى بجميع أطيافه صفاً واحداً لتلك المحاولة الخائنة.
وتلبيةً لنداء الديمقراطية، هرع الشعب في تركيا في شتى أنحاء البلاد نحو الساحات والميادين، وأفشلت إرادتهم الباسلة وتضحياتهم والدماء التي وهبها لوطنهم نحو 253 شهيداً وأكثر من 2700 جريح، هواجس الانقلاب قبل ظُهر اليوم التالي.
كيف نسج الإرهابيون محاولة الانقلاب الخائنة في تركيا؟
منذ أعوام عدة قبل المحاولة الانقلابية سعى تنظيم غولن الإرهابي للتسلل لجميع مؤسسات الدولة في تركيا، من خلال من يُدعون قادة التنظيم والعناصر التي تسللت إلى الجيش التركي، وفي 27 ديسمبر/كانون الأول 2015، بدؤوا يجتمعون سراً للتخطيط للخيانة التي حاولوا تنفيذها في 15 يوليو/تموز 2016.
وفي ذلك اليوم حرّك التنظيم الإرهابي عناصره المتغلغلة في الجيش التركي من قاعدة أقنجي الجوية، واتخذ الانقلابيون أول خطوة فعلية من خلال السيطرة على نظام الرسائل العسكرية، مرسلين تعليمات الطوارئ المكونة من 20 بنداً بعنوان “خطة عملية يلدريم” إلى الوحدات التي كانوا يسيطرون عليها.
لكن في نفس اليوم، أخطر شخصاً من قيادة الطيران وكالة الاستخبارات الوطنية في تركيا عن هجوم مرتقب بطائرة هليكوبتر، وتحركت الاستخبارات الوطنية بناءً على المعلومات التي تلقتها من الطيار وأبلغت التفاصيل إلى هيئة الأركان العامة، الذين أرسلوا بدورهم ثلاثة أوامر عاجلة إلى جميع الوحدات.
حينها أدرك الانقلابيون أنهم كُشفوا، فبادروا بالتحرك وقدموا موعد تنفيذ الانقلاب الذي كان في الساعة 03:00 من 16 يوليو/تموز، إلى الساعة 21:20 في 15 من نفس الشهر. وفي تلك الساعة، سُمع إطلاق نار من اتجاه هيئة الأركان العامة، وأغلق الانقلابيون جسر البسفور الذي أطلق عليه لاحقاً اسم “جسر شهداء 15 تموز”، زاعمين إن “تدريباً” جارياً قيد التنفيذ.
وفي أثناء ذاك الوقت العصيب، نشر التنظيم الإرهابي الدعاية السوداء عبر الاتصالات اللاسلكية ووسائل التواصل الاجتماعي في تركيا لمنع تشتت صفوف الانقلابيين ومحاولة تضليل الشعب. وقصف الإرهابيين البرلمان التركي والمجمع الرئاسي وأيضاً بعض نقاط الشرطة، ثم سيطرت مجموعة من الجنود الانقلابيين على مبنى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في أنقرة ومقر هيئة الأركان معلنين أسر رئيس الأركان حينها خلوصي أكار، تزامناً مع إغلاق مجموعة أخرى منهم جسرَي البسفور، والسلطان محمد الفاتح في إسطنبول.
وفي ذلك الانقلاب الفاشل، شارك أكثر من 10.000 عضو بين عسكري ومدني تابعين لتنظيم غولن الإرهابي، مستخدمين 35 طائرة عسكرية و74 دبابة و246 مركبة مدرعة و3 سفن حربية و37 مروحية عسكرية.
إفشال المحاولة الانقلابية في 15 ساعة
وخلال 15 ساعة فقط، نجحت القيادة التركية بدعم من الشعب، في إجهاض محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادتها مجموعة من الضباط المنتسبين إلى تنظيم “غولن” الإرهابي، الذي يتزعمه فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1999. وكشفت بيانات لوكالة الأناضول، أن محاولة الانقلاب التي بدأت الساعة 22.00 بالتوقيت المحلي من يوم الجمعة 15 يوليو/تموز 2016، في مقر رئاسة الأركان التركية بالعاصمة أنقرة، أُحبطت ظهر اليوم التالي في الساعة 12.57.
فبعد نحو ساعة ونصف فقط من بدء تلك المحاولة الفاشلة، اتصل رئيس الوزراء حينها بن علي يلدريم، بإحدى القنوات التلفزيونية المحلية، معلناً أن ما يجري هو “محاولة انقلاب على يد مجموعة داخل الجيش”، وشدد أنه “لن يُسمح بحدوث ذلك، وسيدفع القائمون عليه ثمناً باهظاً”.
وفي الساعة 00.11، وصل الرئيس رجب طيب أردوغان، من مرمريس بولاية موغلا غربي تركيا، قبل المحاولة الفاشلة لاغتياله الذي خطط لها التنظيم الإرهابي هناك، إلى مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول. وفي تلك الأثناء أجبر الانقلابيون موظفي مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية على قراءة بيان الانقلاب، لتعلن الرئاسة فيما بعد أن “البيان لم يصدر باسم رئاسة الأركان”، داعية المواطنين إلى التزام الدقّة في هذا الشأن، وأعقب ذلك انقطاع البث التلفزيوني.
بعدها اتصل الرئيس أردوغان بإحدى القنوات التلفزيونية في تركيا داعياً الشعب للنزول إلى الشوارع، وأدان محاولة الانقلاب مؤكداً أن القائمين على هذه المحاولة سيُحاسَبون وفقاً للدستور والقوانين التركية أياً كان انتماؤهم.
ودفعت دعوة أردوغان حشود الشعب إلى النزول إلى ميادين وساحات المدن تعبيراً عن رفضهم للانقلاب الخائن. وفي الصباح أعلنت السلطات التركية، القبض على 1563 من عناصر التنظيم الإرهابي في عموم البلاد، وكذلك القبض على قائد لواء الكوماندوز 49 في بينغول الجنرال يونس قوطامان، وقائد لواء الكوماندوز الثاني في بولو الجنرال إسماعيل غونيش أر، لتورطهم في تلك المحاولة الانقلابية.
وبعد سويعات أعلن يلدريم تحرير رئيس الأركان خلوصي أكار، وأكد أنه على رأس عمله في مركز إدارة الأزمة، بقصر جانقايا، وفي الساعة 12.57 وصل يلدريم إلى القصر وصرح للصحافة أن التمرد أُخمِد، بالإضافة إلى القبض على 2839 عسكرياً، بينهم ضباط برتب رفيعة.
مقاومة الأمن في تركيا
كانت إحدى النقاط التي شهدت مقاومة قوية ضد الانقلابيين، مديرية أمن أنقرة، إذ أبوا تسليمها للعناصر الإرهابية، وحماها الضباط بأرواحهم، وكان أحد أقرب الشهود على تلك الليلة، محمود قارا أصلان، الذي شغل منصب مدير أمن أنقرة آنذاك.
وتحدث قارا أصلان عن تجربته في تلك الليلة العصيبة مع قناة TRT Haber الأسبوع الماضي قائلاً: “في البداية، كانت المعلومات المقدمة لنا تدعي أن جندياً داخل المبنى فقد صوابه ونحاول السيطرة عليه، لكن تلك التفسيرات لم تكن مقنعة لي، لذا طلبت السيطرة على جميع مداخل المبنى، ثم رأينا الطائرات تبدأ بالتحليق”.
وتابع أنه أصدر تعليمات أن يُرد على أي شخص يطلق النار، وألا يستسلم أحد، “ونفذ الضباط هذا الأمر بفخر وشرف، وقاوموا الانقلابيين في تلك اللحظات الحرجة، شكراً لجميع زملائي الذين واجهوا الموت بشجاعة”.
و أضاف قارا أصلان: “نحو الساعة 11 مساءً، بدأ المواطنون بالنزول إلى الشوارع، وحاول الانقلابيون محاصرة مبنى إدارة أمن العاصمة، قصفوا قاعة الطعام بجوار مبنانا القديم بطائرة، على افتراض أنها قد تكون مكان تجمعنا. لكن الشرطة لم تكن خائفة، لم يختبئوا في أي مكان، كانوا في كل أنحاء أنقرة”.
وأفاد باستشهاد 7 ضباط و6 مدنيين دفاعاً عن مديرية أمن أنقرة، لكنها لم تُسلَّم، كما تعرض المبنى لأضرار جسيمة جراء قصف الانقلابيين، الذين لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم الفاسدة وأُعيد بناؤه من جديد.
“ندوب بمثابة أوسمة”
في أثناء ذلك خرج المُعلم عمر فاروق تشاتال من منزله في أنقرة لينضم إلى أبناء شعبه الذين انتفضوا إلى الشوارع رفضاً لمحاولة الانقلاب الفاشل، وأُصيب في وجهه بنيران أطلقتها مروحية أمام مقر هيئة الأركان العامة، ويعيش الآن البطل الذي تغذى بواسطة أنبوب لمدة 6 أشهر بلوح بلاتيني في فكه المكسور.
وفي حديث له مع TRT Haber قال تشاتال أنه لم يشعر أبداً بالضيق من الأضرار الدائمة في فكه، وأنه مستعد للتضحية بأكثر من ذلك من أجل الوطن، وأوضح: “يوجد لوح بلاتيني في فكي السفلي المكسور ومثبت بالمسامير. قال الطبيب إن فكي سيلتئم مع الوقت، وإن جسمي سيتكيف، وإن الأعصاب ستشفى بقدر ما تستطيع، وإن أسناني في الجزء الذي لم يلتئم ستسقط مع الوقت. عندما أفرش أسناني أو يبقى شيء من الطعام، لا أشعر به. لا أشعر بالجانب الأيسر من فكي. حتى لو كان وجهي معوجاً، فإن اللوح البلاتيني الذي أحمله أصبح وساماً بالنسبة إليّ”.
وأكد المعلم في مدرسة قليتش أرسلان الثانوية المهنية والتقنية، أهمية تنشئة طلابه بروح حب الوطن والأمة والعلم. قائلاً: “نحاول أن نغرس في الأطفال حب الوطن والأمة والعلم في دروسنا. هذا ما تعلمناه، الوطن أولًا. إذا كان أحد يفكر في محاولة خيانة مثل 15 تموز، أتمنى أن يمحوها من عقله. هذا الشعب رمى بنفسه أمام الدبابات والأسلحة والمروحيات. هذه قضية علم ووطن. الجميع أصبح أكثر وعياً”.
وفي إسطنبول، أصيب خليل ألقان في عموده الفقري نتيجة لإطلاق النار في أثناء وقوفه فوق دبابة، ما جعله يعيش حياته مقعداً على سريره.
ويحكي ألقان، الذي يزال يتذكر تلك الليلة المؤلمة التي عاشها والآن يتلقى علاجه في منزله في مسقط رأسه ماردين لـTRT Haber إنه كان يعيش في إسطنبول في ذاك الوقت، وعندما عاد إلى المنزل من عمله تلك الليلة، علم بمحاولة الانقلاب من الأخبار، فخرج مرة أخرى إلى الشارع.
وأوضح أنه عندما خرج التحق بحشد من الناس، وفيما كانوا يسيرون من إسنلر نحو المطار، صعد مع نحو 10 أشخاص على دبابة لمحاولة وقفها “اندفعت الدبابة وسط المشاة، فأصابت بعض مواطنينا واستشهد آخرون، ومرت فوق السيارات وسحقتها ثم زادت سرعة الدبابة وبعد نحو 3 كيلومترات سمعت صوت طلق ناري، وأدركت أنني أصبت وشعرت بألم كبير.”
وذكر ألقان أنه بعدها نُقل إلى المستشفى حيث قضى 45 يوماً في وحدة العناية المركزة وشهراً في الجناح لتلقي العلاج، مشيراً الى أن علاجه لا يزال مستمراً، وأضاف: “الانقلاب شيء سيء وإذا حدث مرة أخرى سأخرج إلى الشارع ولو كنت في حالة أسوأ من هذه”.
وقوبلت المحاولة الانقلابية باحتجاجات شعبية عارمة في معظم المدن والولايات التركية، إذ توجه المواطنون بحشود غفيرة تجاه البرلمان ورئاسة الأركان بالعاصمة، والمطار الدولي بمدينة إسطنبول، ومديريات الأمن في عدد من المدن، ما أجبر آليات عسكرية كانت تنتشر حولها على الانسحاب، وساهم بشكل كبير في إفشال المخطط الانقلابي.
اقرأ أيضا: أردوغان: لن تشعر منطقتنا بالأمان طالما تنتهج إسرائيل سياسات توسعية
اقرأ أيضا: أردوغان: بإحباط انقلاب 15 تموز في تركيا أهدينا نصرا للأجيال القادمة