• 28 مارس 2024

كيف ساهمت المسلسلات والأفلام التركية في تغيير المخيلة الجيوسياسية في الشرق الأوسط؟

قطع الاهتمام بالمسلسلات التلفزيونية التركية شوطاً كبيراً مؤخراً مقارنةً مع حجم المنافسة الدولية الكبير في المجال، وقد توسعت جغرافيا الجمهور المهتم بها بما تجاوز التوقعات، بل إن شهرتها طارت عبر الحدود من أمريكا اللاتينية إلى أقاصي آسيا.

 

واليوم، تعرض أكثر من 100 دولة، بما في ذلك دول في أوروبا وأمريكا الشمالية حوالي 150 مسلسلاً تلفزيونياً تركياً. وقد بلغت مبيعات هذه المسلسلات أكثر من 350 مليون دولار كعائدات تصدير لتركيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الرقم لا يشمل عائدات السياحة المتعلقة بأماكن ارتبطت بهذه المسلسلات والتي يصعب تقدير قيمتها.

 

مع ذلك، فالفائدة الحقيقية للمسلسلات التلفزيونية ليست اقتصادية إنما جيوسياسية. إذ تساهم المسلسلات التركية في الخارج في بناء خيال جيوسياسي جديد على الصعيد المحلي والدولي على حد سواء. ويتشكل هذا الخيال بقدر المتعة والترفيه الذي ينشره المسلسل في بيئة عرضه.

 

وكمثال على ذلك، تصوير تورط الولايات المتحدة في فيتنام في أفلام حرب هوليوود. فقد نجح قطاع المسلسلات والافلام في الولايات المتحدة إلى حد بعيد في تغيير مفهوم معظم الناس عن تلك الحرب حيث أخفيت حقيقة هزيمة الأمريكان الكارثية جزئيًا.

 

في الوقت نفسه، استخدمت الصناعة الترفيهية مجموعة من العناصر بما في ذلك الأفلام السينمائية، لتشكيل صورة عالمية سلبية عن تركيا. مثلما حدث في التصوير غير الواقعي لصورة تركيا في فيلم “ميدنايت اكسبريس” عام 1978. لذلك، من المهم ألا يتم تقييم صادرات تركيا الدولية لقطاع الأفلام والمسلسلات فقط بقدر مساهمتها الاقتصادية في البلاد، ولكن أيضا لمساهمتها في الخيال الجيوسياسي للعالم. وبهذا المعنى، أرى أنه يجب إعادة النظر في المسلسلات التركية ليس فقط لمردودها المالي ولكن أيضا لقدرتها على بناء رواية حقيقية عن تاريخ الأمة.

 

أول ما عبرت السينما التركية الحدود الجغرافية والثقافية كان في منتصف العقد الأول من القرن الحالي. وعلى وجه التحديد، في فيلم وادي الذئاب بنسخته العراقية (2006) ووادي الذئاب بنسخته الفلسطينية (2011)، وهو فيلم سينمائي وقائعه مأخوذة عن مسلسل تلفزيوني يحمل نفس الاسم، اللذين أحدثا ارتفاعاً في حدة الاضطرابات الدولية بهزهما خيال الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط وتركيا.

 

وقد كانت السيطرة، قبل هذا النوع من السينما، للخطاب الجيوسياسي الغربي على الشرق الأوسط وتركيا داخل قاعات السينما، كما نعلم جميعاً.

 

لقد تحدّت سلسلة الأفلام هذه الخطابات الجيوسياسية التي سادت فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر التي أنتجتها هوليوود، واستطاعت أن تعارض أفلام ومسلسلات الحرب على الإرهاب التي أشارت إلى أن المسلمين والمشرقيين هم إرهابيون محتملون وجغرافيتهم مليئة بالعنف والفوضى.

 

دخل وادي الذئاب بنسخته العراقية المسرح العالمي بهدف الإطاحة بالتصور الغربي للمسلمين. وعرض المسلسل العلاقة بين حرب العراق والمصالح الأمريكية في الاستحواذ على النفط العراقي، وحماية الإسرائيليين في الشرق الأوسط بأي ثمن. وبمشاركة ممثلين هوليووديين في العمل، أعاد وادي الذئاب العراقي رسم حقيقة وجود الولايات المتحدة في العراق.

 

وقد استقطب العمل بعد فترة وجيزة من عرضه على الشاشة البيضاء، النقد والثناء كلاهما بفهمه للحرب الأمريكية على الإرهاب والسياسات المتعلقة بالشرق الأوسط. لا شك في أن هذا العمل التلفزيوني يشكل نقطة دخول تركيا إلى المسرح الجيوسياسي العالمي كممثل إقليمي يمكن أن يتحدى الفهم السياسي المسيطر على الشرق الأوسط. وهكذا انطلقت أول رحلات قطاع الترفيه التركي عبر الحدود، ودخلت تركيا عصر تفكيك الخيال الجيوسياسي المسيطر الذي كان في السابق يرسم التصورا عن المنطقة.

 

في المرحلة الثانية، من عام 2014 حتى الوقت الحاضر، راح قطاع الأفلام والمسلسلات التركية يبني خيالًا جيوسياسيًا من خلال عبور حدود الدولة بسلاسة للوصول إلى غرف معيشة الملايين من المتابعين بشغف، من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية. في هذه الفترة، صارت المسلسلات التلفزيونية التركية قادرة على أكثر من مجرد تدمير التصورات الثابتة.

 

أصبح العاملون فيها يستخدمون قصصًا وخطبًا متنوعة لا تقتصر على تسلية الملايين فحسب، بل تساعد المشاهدين على تمييز القراءات البديلة للسياسة العالمية أيضًا ومشاركة الرواية التركية للتاريخ والجغرافيا. فالمسلسلات التلفزيونية الذي يتم إنتاجها بدعم من هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية “تي آر تي” تقوم على أرضية الترفيه مع دراما تاريخية كاملة قادرة على تشكيل خيالٍ جيوسياسي.

 

مسلسلات مثل “قيامة أرطغرل” و”السلطان عبد الحميد” و” كوت العمارة”، هي من المنتجات التاريخية التي لا تعيد فقط أمجاد الماضي ولكنها تضفي أيضا الطابع الرسمي على خيال جيوسياسي جديد وتوصل الروايات الوطنية الحقيقية للجمهور.

 

تعرض هذه المسلسلات التلفزيونية أمام جمهورٍ محليٍ ودوليٍ واسع، قصصًا بنّاءة تتوافق مع رؤية تركيا الجديدة في العقد الأخير. وعليه، فإن قدرتها البنّاءة في الجغرافيا السياسية من خلال الترفيه والتسلية تختلف عن الفترة السابقة للإنتاج.

 

تعيد هذه المسلسلات بناء الأحداث التاريخية والتعريف بالشعوب والمناطق الجغرافية بطريقة لا تشبه القراءات التقليدية للتاريخ والجغرافية التركية. على سبيل المثال، يسلط مسلسل “السلطان عبد الحميد” الضوء على حقبةٍ مثيرةٍ للجدل في التاريخ العثماني إذ يروي أحداثاً كثيرة من حياة عبد الحميد الثاني، الملقب بـ”السلطان الأحمر” في الغرب. ويسرد المسلسل صراعات السلطان للحفاظ على استمرار الإمبراطورية وبقائها على قيد الحياة لعقود على الرغم من كل أنواع التدخل الإمبريالي الغربي.

 

في هذا المسلسل، يتم عرض الأحداث الحالية على خلفية تاريخية، وبذلك ينتج عن المسلسل تأثير جغرافي سياسي على الجمهور بتوضيحه الروايات التاريخية البديلة. وبالرغم من أن أحداث المسلسل تدور حول التاريخ، إلا أنه يمكن إيصال محتوى الرسالة المتعلق بهذا الزمان وهذه الجغرافية، للجمهور.

 

لا شك أن قطاع الترفيه التركي، سواء في السينما أو في المسلسلات التلفزيونية، يؤثر على الخيال الجغرافي محليًا ودوليًا عن طريق روايات هادمة وأخرى بنّاءة. وقد لعبت بعض المنتجات الترفيهية السابقة، لا سيما أفلام الحرب “شبيهة رامبو”، دورا هاما في التشكيك في الخيال الجيوسياسي لتركيا والشرق الأوسط.

 

لقد بات بوسع المسلسلات التلفزيونية التي تم إنتاجها مؤخرًا، لا سيما تلك التي تبثّ على قناة “تي آر تي”، إنتاج رؤية مناهضة للواقع الجيوسياسي المفروض غربياً، كما أصبح بوسعها إنتاج خيال جيوسياسي بديل خاص بالرؤية التركية.

 

إن قطاع الترفيه التركي يهدف بإنتاجه الذي يصدره للعالم أجمع، إلى بناء قصص جديدة وروايات عريقة عن تركيا مستوحاة من التاريخ والجغرافيا بشكل كبير.

 

المصدر- ديلي صباح العربية

فريق التحرير

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *