مقال رأي بقلم الكاتب: حمزة حيدرة
من المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالتقوى وينقص بالمعصية ، وشهر رمضان قد فرض الله صيامه لكي يزداد المسلم تقوى ولكي يتقرب إلى الله في هذه الأيام الفاضلة بالعبادة حتى يكون من أولياء الله تعالى . والمسلم الحصيف هو الذي يداوم على سلوكه في شهر رمضان بعد شهر رمضان حتى يصدق عليه أنه عبد لله في جميع الشهور لا في شهر رمضان فحسب.
كن عبداً ربانياً ولا تكن عبداً رمضانياً
إن العبد الرباني، هو الذي يعبد الله -تبارك وتعالى- السنة كلها، قيل لبشر الحافي: “إن قوما يجتهدون ويتعبدون لله -جل وعلا- في رمضان وحده؟” فقال: “بئس القوم قوم لا يعرفون الله حقا إلا في رمضان”.إن العبد المجتهد الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. فهكذا فكونوا -عباد الله-، رمضان فرصة أدركناها بفضل الله -تبارك وتعالى- علينا، وأنعم الله -عز وجل- علينا بإتمامها.
السّاعات الأخيرة من رمضان كلّ عام، ساعات حزينة ومؤثّرة، تخفق فيها قلوب الصّالحين حسرة على رحيل أيام ذاقوا فيها حلاوة الجوع وليالٍ وجدوا فيها لذّة الخشوع.. حتّى المفرّطون والمقصّرون من أمثالنا، تتحسّر قلوبهم على ما أضاعوا من أيام الشّهر الفضيل ولياليه وساعاته، وهم يخشون أن يعود رمضان في عام قابل وهم تحت اللّحود رهائن تفريطهم وتقصيرهم، يعضّون أصابع النّدم على ما فرّطوا في جنب وأضاعوا من أعمارهم، ويتمنّى الواحد منهم لو يعود إلى الدّنيا ليصوم يوما واحدا من رمضان ويقوم ليلة واحدة من لياليه.
ففي كلّ عام يقرع رمضان قلوبنا ويهزّ أرواحنا بسرعة توالي أيامه وفجأةِ رحيله، ليُنذر كلّ عبد تغرّه صحّته أو يغرّه شبابه بأنّ العمر سيمضي سريعا كما مضت أيام رمضان، والفرص مهما كانت متاحة إلى آخر العمر، فإنّ كثيرا منها سيفوت كما تفوت فرص رمضان.. قد يموت الإنسان فجأة فتُطوى عشرات الفرص التي كانت تتلألأ أمامه وهو يسوّف ويؤخّر ويؤجّل؛ يغلق في وجهه باب التّوبة، وتبقى المظالم معلّقة في رقبته والذّنوب تثقل كاهله والطّاعات التي ضيعها دينا يصعب سداده إلا بعفو من الله.. وإن لم يمت الإنسان فجأة، فإنّه ربّما يمرض فجأة، فيعجز عن كثير من الطّاعات التي كان يقوى عليه في صحّته وعافيته لكنّه كان يتكاسل عنها، ويصبح بعد مرضه يتمنّى لو يقوى على القيام بين يدي مولاه، لو يستطيع السّعي إلى بيت الله، وهو الذي كان قبلها يسمع النّداء فيأبى إجابته ويقوم إلى سجادته في البيت لينقر صلاته نقرا ويعود إلى التلفاز أو إلى هاتفه.. ربّما يتمنّى بعد مرضه لو يقوى على تقليب أوراق المصحف، وهو الذي كان يقلّب صفحات الفايسبوك ويقرأ عشرات الرسائل على الماسينجر ويبخل عن نفسه بقراءة صفحة من كتاب الله.. ربّما يتمنّى بعد سقمه لو يقوم عند قدمي أمّه خادما لها، وهو الذي كان يأنف خدمتها ويتضجّر من طلباتها وكلماتها.

رمضان ضيف عزيز يُكرم –بإذن الله- من أكرمه، ويرحل ليشهد له عند خالقه بحسن صنيعه معه، وهي الشّهادة التي يجد العبد المقبول أثرها في قلبه وروحه وحاله؛ تتحسّر نفسه على وداع رمضان، ويجد رغبة تحدوه لمواصلة العمل الصّالح والوفاء لرمضان حتّى لقائه في عام قابل بإذن الله، فهو يعبد الواحد الديان ولا يعبد رمضان، يعلم أنّ رمضان محطّة لزيادة الإيمان وشحذ الهمم وإيقاد العزائم، لمواصلة السّير إلى الله والدّار الآخرة، يعلم أنّ قيام اللّيل متاح في غير رمضان كما كان متاحا في رمضان، وأنّ الصيام متاح في سائر أيام العام، والصّدقة تقبل ويضاعف أجرها في كلّ وقت وآن، وأنّ العتق من النّار متاح بأعمال كثيرة تتيسّر في غير رمضان، وأنّ أسباب مغفرة الذّنوب تتهيّأ لمن طلبها في كلّ يوم وكلّ ساعة، وأنّ الذي يبسط يده للتّائبين في ليالي رمضان، يبسطها كذلك في سائر أيام العام.. يروى أنّ الإمامَ أبا بكر الشبلي (ت: 334هـ) سأله أحد أصحابه: أيّهما أفضل: رجب أم شعبان؟ فقال: “كن ربانيًّا ولا تكن شعبانيًّا”.. ويروى أنّ جارية باعها سيدها لقوم، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له بما لذ وطاب من الطعام والشراب، فسألتهم، فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: “وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟! لقد كنت عند قوم كان كل زمانهم رمضان؛ ردّوني عليهم”.. ويروى أنّ الحسن بن صالح (ت: 169هـ) باع جارية له، فلما انتصف الليل قامت فنادت: يا أهل الديار، الصلاة الصلاة، قالوا: أ طلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلّون إلا المكتوبة؟! ثم جاءت الحسن وقالت: “لقد بِعْتَني لقوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة، رُدَّني، ردّني”.
فاحذر أخي المؤمن أن تكون امرئ سوء، لا يعرف قيام اللّيل ولا يقيم صلاة لوقتها، ولا يعرف لبيت الله طريقا، ولا تمتدّ يده بصدقة أو معروف، ولا يفتح المصحف، إلا في أيام وليالي رمضان! لا يكفيه أن يجعل ساعات يومه الأربع والعشرين للدّنيا، حتّى يجعل لها أحد عشر شهرا في العام.. لا يغرنّك الشّيطان بأنّك ستجد سعادتك في النّوم الطّويل وفي تأخير الصّلاة ونقرها، وفي إشباع نهم النّفس من المآكل والمطاعم في كلّ وقت وكلّ ساعة، وفي إمساك المال وكنزه… سعادتك الحقيقية والدّائمة في طاعة مولاك والأنس به، في المحافظة على صلاتك وتلاوة كلام الله، في بذل النّدى وكفّ الأذى، في المحافظة على ساعات عمرك
فيـا عيـن جـودي بالدمـع من أسف *** على فـراق ليـالـي ذات أنـوارِ
على ليالي لشـهر الصـوم مـا جعلت *** إلا لتـمحيـص آثـــام و أوزارِ
ما كـان أحسـننا و الشـمل مـجتمـع *** مـنا المـصلي و منا القانت القاري
فابكوا على ما مضى في الشهر و اغتنموا *** مـا قـد بقي مـن فضـل أعمـارِ
فكان حال الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك هو دوام العبادة، فكان عليه الصلاة والسلام يديم أعمال الخير، وعن ذلك قالت أمهات المؤمنين، وكن هن الأقرب لمعرفة أحواله عليه الصلاة والسلام في ذلك: “كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة، أي دائما”، وكان إذا عمل عملا أثبته، أي إذا صام واصل الصيام، وإذا صلى واصل الصلاة، وإذا قام واصل القيام، في دلالة على أنّ أعمال الخير ليست مرتبطة بشهر رمضان، بل الأصل فيها الدوام والاستمرار..
فقديما اشتكى الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنهم لا يثبتون على القمة السامقة…فقال لهم: لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم و طرقكم…ولكن ساعة وساعة.
فمن علامات قبول رمضان الثبات بعده و لو بالحد الأدنى..فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن لا نصلي الفجر في وقتها مع المكث في جلسة البكور لنقتبس من أنوارها.مع المحافظة على الورد القرآني والذكر والدعاء.و أن نعمل على استرداد رمضان في كل شهر.. بصيام ثلاثة أيام منه.. مع التركيز على ست من شوال و تسع ذي الحجة وعاشوراء.. فنبقى أوفياء لرمضان.. وندخل عبير رمضان في كل وقت.فالمثبت و الحافظ هو الله…ولو أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئــا قليلا… فلنكثر من ذلك الدعاء .. يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على طاعتك..
يا مقلب القلوب والأبصار صرف قلبي إلى طاعتك.
لا تُودِّعُوه بل خذوه إلى باقي عامكم “رمضان” ليس شهراً بل أسلوب حياة لا تودّعوه بل أفسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام الصوم لا ينتهي القرآن لا يُهجر والمسجد لا يُترك والاستجابة لا تتوقف والأجر لا ينقطع. “اعبد ربك حتى يأتيك اليقين” كن ربانياً ولا تكن رمضانياً”!
تـــزودّ للــــذي لابُدّ منــــــه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد ؟
إن نفحات الخير تأتينا نفحة بعد نفحة ، فإذا ما انتهينا من أداء الصلوات المفروضة ، تأتي النوافل المتعددة المذكورة في كتب الفقه ، ولئن أدينا الزكاة المفروضة فإن أبواب الصدقات النوافل مفتوحة طيلة العام ، ولئن أدينا فريضة الحج فإن أداء العمرة ميسر طيلة العام ، وهكذا الخير لا ينقطع وهذا فضل من الله ونعمة .
إياك والكسل والفتور
من ناحية أخري علي المسلم ان يكون حذرا من الوقوع أسيرا الكسل والفتور بعد رمضان، وليعلم أن الاستقامة من أفضل الأعمال، فعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ) أخرجه مسلم.
بل أن السلف الصالح كان يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا من العمل، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: ” إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين” المائدة:27.
وبدوره قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: (من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى، وعلامة ردها أن يُعقِب تلك الطاعة بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها). لطائف المعارف.
من ثم علي المسلم أن يداوم على العبادة بعد رمضان، فقد كان من هدي النبي المداومة على الأعمال الصالحة، فعن الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ)، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ. أخرجه مسلم.
06 عبادات لا تنقطع
واجمع العلماء علي ضرورة أن يواصل المؤمن العبادات والطاعات التي كان يداوم عليها خلال شهر رمضان وأن يحرص علي الصلاة وقيام الليل وقراءة القرآن والمحافظة علي الثوابت الدينية ومجاهدة النفس واستمرار الإحسان إلي الناس باعتبار أن هذه الطاعات هي الكفيلة بتحول المؤمن لعبد رباني وليس عبدا رمضانيا.
ألا ما أحوج أمتنا إلى أن تستفيد من شهر رمضان، فهو موسم المتَّقين، ومتْجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين؛ ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: مرحبًا بالمُطهِّر! فهو فرصة للتطهر من الذنوب والسيئات، كما أنه فرصة للتزود من الصالحات والحسنات.
فلنتخذ من رمضان (معسكرًا) إيمانيًّا؛ لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث؛ للسعي الدؤوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معيش. .. باختصار: سعادتك في أن تستعبد نفسك لله ولا تتركها تستعبدك.. فكن ربانيا تظفر بالسّعادة، ولا تكن رمضانيا فتخسر الدّنيا والآخرة.
ورحم الله أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي الذي قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك (مدرسة الثلاثين يومًا) !.
الكاتب : حمزة حيدرة
اقرا ايضاً: أهم عادات رمضان في تركيا